بصمات الفن الفلسطيني المعاصر

من التعبيرية التسجيلية إلى السوريالية الغاضبة
05:33 صباحا
قراءة 5 دقائق

يورد الفنان الفلسطيني الراحل إسماعيل شموط في كتابه الذي حمل اسم الفن التشكيلي في فلسطين، بأن الحضارة الكنعانية التي استوطنت أرض فلسطين، طرحت خصوصيتها العميقة رغم وقوعها بين حضارتين كبيرتين هما حضارة مصر الفرعونية، وحضارة العراق البابلية . ويستند شموط إلى باحث كبير في الحضارات السامية القديمة هو الكاتب س . موسكاتي الذي أقرّ بأن أجداد الفلسطو أضافوا الكثير من المهارات الغنية إلى الكثير من النماذج الأجنبية .

قبل الفتح الإسلامي، وتحديداً في الأزمنة المسيحية الأولى، ولأن فلسطين هي مهد المسيحية، انتشر الفن البيزنطي، وقد بقي هذا الفن علامة مسيحية في العديد من الكنائس حتى يومنا هذا .

أما الفن الإسلامي فإنه تطور وازدهر في الأرض التي فتحها حيث تفاعل الإسلام وثقافته البصرية مع الثقافات الموجودة في البقعة الفلسطينية .

ويرصد الناقد الفلسطيني الكبير المرحوم جبرا إبراهيم جبرا فترتي العشرينات والثلاثينات في فلسطين القرن العشرين، فيؤكد وجود رسامين يرسمون بالزيت، وأن بعض الرهبانيات الأجنبية كانت تعلم الرسم .

ومع بدايات القرن العشرين كانت عائلة الصايغ ورجل منها بالذات يرسم موضوعاته الدينية المسيحية ويبيعها، وكان معاصره داود زلاطيمو وكذلك توفيق جوهرية في طليعة الرسامين الفلسطينيين، كما كان الفنان الخزاف حنا المسمار وهو من كبار الخزافين الرمزيين، ولكنّ أول دارس أكاديمي للفن ولفن الرسم بالذات فضل عوده الذي درس في إيطاليا .

أما الحركة الفنية التي طلعت بعد نكبة فلسطين عام ،1948 فقد اتسمت بمواصفات أساسية ميزتها عن بقية الحركات الفنية العربية المصاحبة، إذ رغم أنها نتاج فنان كان يمارس الفن قبل النكبة الفلسطينية، أمثال جبرا إبراهيم جبرا وروبير ملكي، وغيرهما، إلا أنها اضطرّت إلى الدخول في عمليّة رصد الحدث الكبير الذي اتّسم بتهجير شعب برمّته عن أرضه، واحلال غزاة احتلوا أرضه محله .

هذا الحدث كان من الوطأة والجسامة، بحيث لم يسمح للرسام الفلسطيني المخضرم أو الناشئ سوى أن يدوّن بريشته ما يحصل على الأرض . مقدّماً لغة تعبيرية ذات صوت خطابي، وطابع تسجيلي تدويني يروي ما يحصل . فقد كان الفنان الفلسطيني يرغب بأن يرى العالم ما يحصل، كان يشعر بأن العالم من حوله لا يكترث، وربما لا يعرف، لكنه أدرك بأن الفن الذي يصير بمرتبة رسالة مرسومة هو لغة المخاطبة الأجدى .

صحيح كما كان يردد المرحوم إسماعيل شموط بأن روّاد الحركة الفنية الفلسطينية الحديثة انطلقوا من بين اللاجئين المطرودين من ديارهم، وأنهم عايشوا أحداث النكبة ومآسيها بكل ما حوت واشتملت عليه من أحزان وآلام، إلا أن ما يجب أن يسجل لمصلحة هؤلاء الفنانين أنهم مارسوا الفن ليس من أجل المتعة، بل لإفراغ ذلك المخزون الهائل من المعاناة العامة والخاصة .

وعلينا أن نعترف بأن الثنائي إسماعيل شموط وتمام الأكحل قدّما نموذجاً تحريضياً حيّاً للوحة الفلسطينية التي تقوم على ثلاثية التحريض، والانفعال، والرمز بحيث إن فناً يحمل هويته الفلسطينية الواضحة، بات يحمل بصمات الزوجين، ويؤثر في أجيال من الفنانين الفلسطينيين الطامعين .

ومع بداية الستينات بدأت ملامح الاجتهاد الفني الفلسطيني تطلّ عبر تجارب عديدة تتجاوب مع صوت الثورة الفلسطينية الذي بات يرتفع، ولكن على صعيد واقعي تعبيري أطلق عليها شموط نفسه اسم الانفعال .

وبما أن لوحة الانفعال سريعة العطب، وأن هناك مسافة ما بين البوستر واللوحة الفنية، فقد أعطت الاجتهادات التشكيلية الفلسطينية ثمارها، سواء داخل الخط الأخضر أي ضمن أراضي فلسطين عام ،1948 أو خارج الوطن في المنافي والشتات .

ففي الداخل برزت أسماء مهمة أمثال عبد عابدي، وهو الذي صمّم ونفذ بالتعاون مع الفنان الإسرائيلي التقدمي، كرشون كنسبل، نصب يوم الأرض . وهناك أيضاً خليل ريان، وإبراهيم حجازي، ومروان أبو الهيجا، وسعد نصر، وبسام الحايك .

ولكن أعمال هؤلاء لم تعد ترصد الآن، وذلك في زمن أصبحت فيه الاجتهادات التشكيلية مسألة شخصية تحترم الغرض العام بالقدر الذي تقدم فيه لوحة معاصرة ذات مستوى مؤثر، ولهذا السبب أطلّت تيارات فلسطينية غاضبة على نمطية إنتاجها التعبيري، حيث ذهب أحمد نعواش مثلاً صوب سوريالية متحرّرة من الأفكار السلبية، لأنها تشكل حضوراً زمانياً يبدأ من ذاكرة الطفولة، فيما سيأخذنا حسين دعسة إلى ذلك العالم اللزج الذي تتفسّح فيه العناصر، فيما تكعيبية كايد عمرو تشير إلى التحول الصلب للشخصية الفلسطينية التي امتهنت الكفاح المسلح أسلوبها الحياتي الوحيد .

وربما يعدّ الفنان الفلسطيني الراحل مصطفى الحلاج من أبرز الفنانين الفلسطينيين السورياليين الذين استطاعوا أن يصلوا بلوحتهم إلى أرقى مستويات الرمز القائم على فكرة التداعي الخلاق للذاكرة، بل إن حياة الحلاج وموته هما الجزء الأهم من وجوده كفنان فلسطيني مؤسس لاتجاه جديد يتجلّى في رفع مستوى الحفر والطباعة الغرافيكية إلى أرقى المهارات وأخطرها على الإطلاق .

جداريته عبارة عن شريط بطول أكثر من مئة متر، لا تروي حدثاً متسلسلاً بل تفسخ الحدث التأريخي وتحوّله إلى رحلة باتجاه واحد هو الشمس، لذلك اقتحم الحلاج النار التي شبّت في محترفه بغية إنقاذ لوحته العملاقة، وقد أنقذها بالفعل بعد أن التهمت النار جزءاً من جسده ومات .

لوحة الحدث السوريالي الدرامي معجونة ومصنوعة من حياة ذات طابع دراماتيكي عميق، لفنان قرر أن يتمرّد على كل شيء ليقيم هيكلاً فلسطينياً مغايراً لكل الأمنيات، فقد كان يقول لي دائماً: أنا لا أريد فلسطين كما يريدها الآخرون، بل أرغب أن أقيمها من جديد كذاكرة لكل من سيأتي، فهنا مات رجل، وضاع طفل، وقرب هذه الزيتونة أجهضت امرأة كانت حاملاً بالحلاّج الجديد .

أما عدنان يحيى، فهو ينزع الإطار الذي يحمل بصمات ال ءسص، عن لوحته التي تمثل رجلاً غولاً يسلق رأس إنسان فلسطيني صارخ .

ثم يهشم جواد إبراهيم أشكاله الإنسية، لا ليصل إلى تركيب آخر، بل ليترك الكائن مستمراً في عذاباته، لأن العذاب هو اليقظة .

وهناك من بات يفسر فلسطين بلوحات الكونسبت آرت أي الفن المفاهيمي، لأنه يريد أن يذهب إلى التجاوز فيعلق فستاناً للمرأة الفلسطينية طوله من السقف إلى الأرض كما فعلت الفنانة ماري طنب .

ويخلط الفنان سليمان منصور، الطين بالأكريلك ليستنتج أشكالاً مفسخة توحي باندماج الكائن الفلسطيني بالأرض اندماجاً أزلياً .

إن صورة شهيد فلسطيني ملصوقة على جدار مهجور في أرض صارت مراحاً للقنص والاغتيال بين غزة والجيش الإسرائيلي، . سوف تظل تحدق فيك أينما وقفت، وكيفما جلست، لأن من آخر حقوق الفلسطيني القتيل أن يحدق بعين الشاهد، لأنه لم يستطع أن يصطاد قنّاصه القاتل بنظرة خاطفة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"