تعبيرية سوريالية وفيض فانتازي

معرض للرسام حسان خزعل في بيروت
05:04 صباحا
قراءة 5 دقائق

يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه): من لا يملك الحواس الأربع الرفيعة في تذوق الفن، يحاول أن يفهم كل شيء بالحس المباشر، إنه الحس الخامس المأساوي.

هكذا ستبدو السوريالية كتفسير للواقع من خلال عالم ما وراء الواقع. إنها فيض ميتافيزيقي ينطوي على كافة التباسات الحلم، وبخاصة إزاء العلاقة التناسبية بين الزمان والمكان. لذلك كان الشاعر الفرنسي (أندريه بريتون) الذي وضع في عشرينات القرن العشرين أول بيان سوريالي، أول مفسر ميتافيزيقي لكل الأفكار الثورية ونوايا الحروب التي تعج بها القارة الأوروبية، وكان حالة انتظار مرعبة كما كان يردد عبر قصائده.

عندما فسر الرسام الإسباني الشهير سلفادور دالي أفكار بريتون حلمياً، كان عليه أن يستعين بأدوات ثلاث هي:

أولاً: التفسير الفرويدي لمسألة العلاقة بين الإنسان والزمن، فهما ضدان يراقب بعضهما الآخر بغية الوصول إلى نفي حقيقي لجوهر النظام الواعي، بمعنى الاستعاضة عنه بتفسير حلمي يتنحى فيه الزمان مانحاً حق المطاطية والسيلان للمكان.

ثانياً: البحث عن ذاكرة شرسة غير مهادنة لا تسمي الأشياء بأسمائها المعلنة أو المتعارف عليها، بل بأسمائها الباطنية الحقيقية، والتي هي الرغبة بأن يكون العالم ليس كما هو كائن، بل كما يجب أن يكون.

ثالثاً: العودة إلى ما أسسه كل من بروغل وجيرام بوش في القرنين السادس عشر والسابع عشر من قوانين تعبيرية تعتمد على التفسير الحلمي وتطلق العنان للمخيلة. لذلك ألغى وضعه كرسام أكاديمي وتقدم مدهوشاً نحو عالم الفانتازيا متخذاً من التلقائية والأتمتة أي الاوتوماتيكية عبر التداعيات منهاجاً تنفيذياً له.

هكذا يمكن تفسير مدرسة (سلفادور دالي) التصويرية، وهي ليست في حالة توأمة بالطبع مع العديد من السورياليين الذين برزوا بين أواسط العشرينات وأواسط الخمسينات من القرن العشرين، أمثال ايف تانغي، جوزيف يورنس، اندريه ماسون، أرشيل غوركي وصولاً إلى العالم الغرائبي السحري لرينيه ماغريت.

مع ذلك فإن المؤرخ والباحث إدوارد لوسي سميث في كتابه الشهير ما بعد الحداثة، يرى: أن الفضل ما كان ليعزى كله لهؤلاء بل إلى السورياليين الذين قدموا بعدهم فاغترفوا الحافز الحاسم الأقوى. إن أكبر مثال على تطور هؤلاء السورياليين وبلوغ سورياليتهم حالة التجوهر التعبيري هو الأرمني (أرشيل غوركي) المولود عام 1904 فهو ممارس جيد لأساليب الحداثة الأساسية.

بالطبع لا بد من أن نعرج على لبنان، فهنا بدأت السوريالية شعراً. على أيدي شعراء الحداثة الكبار أمثال أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وعصام محفوظ الذي طعم مسرحه بغرابته السوريالية، لكن كلغة تعبيرية فنية لم تطل بشكل ثابت وراسخ إلا عبر ريشة الفنان الكبير سمير أبي راشد الذي منح التعبيرية السوريالية مناخاً صوفياً صافياً، وروحاً شرقية قدست عالم الحلم من دون أن تبتذل عالم الواقع الذي رفعه إلى مستوى عالم المثل.

بالطبع هناك ومنذ الستينات في لبنان عدد من المراحل السوريالية لفنانين ترسخت اتجاهاتهم في ما بعد على أسس تجريدية أو تعبيرية أو حتى حداثوية وفق إيقاعات الفنون الوظائفية الكونسبتول آرت مثل عماد عيسى الذي أقام أكثر من معرض سوريالي.

إطلالة سوريالية لحسان خزعل

اليوم يطل علينا ثانية حسان خزعل، رسام لبناني من بعلبك مواليد 1967 كاتب مسرحي، وهذا يعني أنه كرسام يدخل عالمه التعبيري من بوابتين دفعة واحدة. البوابة الأولى هي بوابة النص الأدبي، العنوان الفكري الذي تحتاجه اللوحة السوريالية أصلاً، لأنها هي في حد ذاتها عبارة عن نص فكري كما سنرى لاحقاً.. ثم إنه كرسام بورتريت افتراضي، أي مترجم للأفكار من الوصفي إلى التصويري بحكم مهنته، وهذا امتياز تقني يخدمه كثيراً في التأليف.

إذن حسان خزعل وفي امتياز جيد يقدم معرضاً متكاملاً عبر لغته التعبيرية السوريالية يفسر لنا عناوين ذات صيغة أدبية رابطاً بين المضمونين الأدبي (الزماني) والتعبيري (المكاني) بغية الصعود بلوحته ومناقشة ذاكرة المتلقي. وهذا يمنحنا الحق بمناقشة لوحته من زوايا عدة، أبرزها زوايا التقنيات وليس زوايا الأفكار لأنها حق مشروع للرسام. كل ذلك ضمن افتراض (جاد) ينطوي على قدر من التكريس لسوريالية رسام لبناني على أمل أن يتبلور هذا الاتجاه بسبب فراغ المساحة التشكيلية اللبنانية حالياً من رسامين سورياليين.

من حيث التقنية يعتمد الرسام على مادتي الزيت والإكريلك في تنفيذ لوحاته. وهذا يمنحنا، ذلك الفارق المغري في ليونة التفاصيل الضرورية للعمل الفني المعتمد على تكريس الحالة التشريحية كنص بصري وبلاغي، ففي لوحة اللغز المشغولة بمادة الإكريلك تتقدم الحالة (الكونتراستية) المتصادمة بين اللونين الأحمر (الخلفية) والأخضر المزرق (المفردة) لتشكل علامة فارقة. في ما سنرى في لوحة (تردد موروث) مرسومة بمادة الأكريلك أيضاً جنوح ريشة الفنان نحو (الدق) أي ضرب اللون للوصول إلى الاندماج اللوني بدل المسح التي ستبدو ذات نتائج تراكمية بسبب سرعة نشفان المادة، لذلك يثير انتباه الناقد التقني ما هو مرسوم بالزيت. لأنه كمادة استخدامية مثالية من حيث التمازج والاستبطان التفصيلي يساعد كثيراً على بلورة الأفكار والذهاب إلى أدق التفاصيل، ويمكن ملاحظة ذلك في لوحات (عزف على الذكريات) والرقص مع الروح، وطفولة بنفسجية وجدتي وصديقتها التي أراها عملاً من أجود الأعمال المعروضة.

ندرك من ذلك بأن مادة الرسم في الموضوع السوريالي هي مادة أساسية، لأنها تبلور الأفكار بشكل أفضل مما يحلم به الفنان، لكن تنوعها مهم أيضاً. وهنا نذهب إلى عالم التخطيطات الأحادية اللون وهي عالم استوعب الكم الهائل من أفكار السورياليين الكبار في الوطن العربي أو العالم الخارجي. من أمثال الفنان السوريالي السعودي إبراهيم الزيكان، أو الرسام السوري الحموي خزيمة علواني أو صاحب لوحة الرجل الأجوف الفنان الروسي (بروفو توروف) أو المرحومة الفنانة اللبنانية جوليانا ساروفيم في مراحلها الأولى.

إن حسان خزعل يحتاج حتماً إلى تجذر تقني في العمل السوريالي بالذات، وهو من دون أدنى شك يمتلك ذاكرة أدبية ونصاً ذهنياً. لكن هناك لمسات فطرية في الرسم تدفع بلوحته إلى ولادة قيصرية أحياناً وهي أمر سوف يسيطر عليه ويشذبه لمصلحة المتانة الأكاديمية التي عليه أن يدرك بأنها أكثر من ضرورية، لأن أي عمل تعبيري سوريالي لم ينهض أساساً إلا على أساس من المتانة والعصب التصويري القوي. ولا يكفي أننا نقدر على رسم المنظر أو البورتريت لكي نرسم هذا العالم التصويري الخطير، بل لا بد من أن نمتلك عضلاً في اليد والذاكرة، لكي نروض كل مفردة لمصلحة المساحة التصويرية برمتها، لأن أبرز ما امتاز به الرسام السوريالي في العالم كله، هي حالة التكامل الفذ بين مفردات العمل ومساحته.

ولكي لا يقال بأن نقداً يطلق في الفضاء بلا دلائل سوف نتناول لوحة تحمل اسم (رسالة إلى سهل البقاع) وهي منفذة بمادة الأكريلك ومساحتها متوسطة 45*65 سنتيمتراً.

هذه اللوحة تنطوي على عنصرين أساسيين، الأول خلفية العمل المكون من سماء وسهل، وهنا تكمن الإشكالية التشكيلية، فهذه الخلفية مرسومة بروح فطرية بلا دراسة لحالة التكامل اللوني بين الأرض ومتحد الأفق والسماء في عالم حافل بالنور كعالم سهل البقاع، في ما الحصان المجنح الطائر بتفاصيله يشكل مفردة مثالية للتعبير عن الأفكار، وهنا كان يجدر بالفنان أن يرسم اللوحة بشكل (هورزنتالي) أفقي لكي يستفيد تعبيرياً من قوة التأليف في المفردة والحصان الطائر والقيثارة، ويمنح بالتالي سهل البقاع مداه الحقيقي كخزان للنور والمدى.

إذن ها نحن نناقش معرض حسان خزعل، والسبب أنه يفرض نفسه على الناقد اللبيب لكي يناقشه، ولكي لا يمر عليه مرور الكرام، وحسناً فعل صديقنا الدكتور (موسى القبيسي) صاحب صالة وغاليري زمان حين اختار هذا المعرض الذي أدخل التنوع الحقيقي على اختياراته الموسمية، وقدم كشفاً جديداً لحالة التنوع الاختباري اللبناني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"