حب النبي قافية للشعر

02:55 صباحا
قراءة 6 دقائق
** يونس ناصر

ربما لم تنل القصائد الدينية حظها من المتابعة مثل بقية أغراض الشعر العربي المعروفة، وربما يرجع ذلك إلى أن غرضها شائع بين الناس، عبر الأزمنة، ووضوح معانيها ومضامينها من حيث هي تضرع لله عز وجل، أو مدائح نبوية، أو قد يكون ذلك بسبب من عدم خضوع أشكال أدائها الفني والفكري للتغير حسب المناهج النقدية التي تعنى بالحركات الشعرية ومصطلحاتها الشائعة في النقد العربي والعالمي.. كما أن القصائد الدينية تذاع يومياً في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، خاصة في أوقات الصلاة، والأعياد والمناسبات الدينية، وهي مفهومة بما فيه الكفاية بالنسبة إلى مختلف مستويات الثقافة.
من حيث التفصيل الشكلي، تنقسم هذه القصائد بحسب الأداء الفني واللحني لها، وحسب المقامات، إلى الابتهالات (وتتكون من النص والصوت الحسن والنغم والارتجال)، ولا تصاحبها الآلات الموسيقية.. والتواشيح، والموشحات (وهي نوع من الشعر استحدثه الأندلسيون، وله أشكال مختلفة لا يتقيّد فيها النَّاظم بقافية واحدة، وقد سُمّي كذلك لأنه يشبه الوشاح بأشكاله وتطريزه)، والإنشاد الذي (تصاحبه الآلات الموسيقية، ويكون بقصيدة شعرية كاملة)، وهذه القصائد كتبت للإنشاد، في حين هناك الكثير من القصائد التي كتبت تأثراً بسيرة النبي المصطفى، كقصائد وليس للإنشاد.. ولها ميزاتها وخصائصها المختلفة.
وفي هذا التدفق الروحاني الفياض بالنفحات الإيمانية الصافية الخالصة، تبرز بضع قصائد اتسمت بالجزالة، والعمق والوضوح، في بناء فخم، وأداء رصين، شكلت بمجموعها ملامح خاصة، نظراً للأسباب الخاصة التي وقفت وراء كتابتها، وأدت إلى ذيوعها، وانتشارها بين الخاصة والعامة، على مرّ العصور.
ومن ملامح هذه الخصوصية أن قصائد البردة تخالف بناء القصيدة الكلاسيكية ونموذجها الأرقى المعلقات التي تعد أجود ما قيل من الشعر العربي، حيث تبدأ بالوقوف على الأطلال، ثم الفخر بالنفس والقبيلة، وقيمها في الكرم والشجاعة وغيرها، بينما تعتمد قصائد البردة في بنائها على ثلاثية الغزل العفيف غير الحسي الذي يثير الغرائز من خلال المغالاة في وصف الجمال الخارجي استدراراً للمشاعر السطحية الآنية التي تبتعد عن مجال الفكر، وتغيّب العقل والإدراك الإنساني السليم.. بل إنها تعبّر في مجملها عن انشغالات الروح والعقل والقلب، في أداء شعري راق، فيه الكثير من الانثيال الوجداني الصافي الذي يبتعد عن الطابع الانفعالي المباشر... كما أن القصد من الغزل في هذه القصائد لم يكن لشخصية معينة معروفة، بل هو وصف من دون تشخيص. وهي عادة لدى الشعراء قديماً لأغراض التشبيه والتلميح وليس القصد والتصريح والإثارة، في الأغلب الأعم.. أما ثانية الثلاثية التي تعتمدها البردة فهي ذكر مناقب النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لتختتم بالثالثة وهي الدعاء من الله بالخير لكل الناس.
أولى هذه القصائد هي (قصيدة البردة) لكعب بن زهير، وقد أنشدها بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد أن أهدر الرسول دمه لتطاوله على مقامه الشريف، وهجائه للمسلمين عامة، فأعلن كعب إسلامه، وندمه.. وبعدما سمعها، صلى الله عليه وسلم، كاملة، خلع بردته، وأهداها إليه، وكان هذا سبب تسميتها (قصيدة البردة). وقد احتفظ كعب بهذه البردة طوال حياته ورفض بيعها رغم حالته المعيشية الصعبة. تقع القصيدة في 58 بيتاً، ومطلعها:

بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
                  مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ ظَعَنُوا
                 إِلَّا أَغَنٌّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ

القصيدة الثانية هي قصيدة «البردة»، أو «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» للبوصيري، وهو محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، ولد بقرية بوصير بمصر سنة 608 وتوفي سنة 696ه/‏1295م. يقول البوصيري عن سبب نظمها: (كنت نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها ما اقترحه عليّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق بعد ذلك أن داهمني الفالج، (الشلل النصفي)، فأبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وقررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فيّ نهضة)، واختلف العلماء في تحديد عدد أبياتها، ولكن أغلب الآراء اتفقت على أن عددها 160 بيتاً، ومطلعها:

أمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمٍ
                  مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَة
                 وَأَوْمَضَ البَرْقُ فِي الظُلْمَاءِ مِنْ إِضَم
فَمَا لِعَيْنَيْكَ إِنْ قُلْتَ أكْفُفَا هَمَتَا
                 وَمَا لِقَلْبِكَ إِنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ

القصيدة الثالثة هي قصيدة «نهج البردة» لأمير الشعراء أحمد شوقي (1868 1932)، ويقال إنه قدمها كتذكار لحاكم مصر الخديوي عباس عام 1909، وكان شوقي نشأ مع جدته لأمه التي عملت وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل.. وهي من أطول قصائده، ويبلغ عدد أبياتها 190 بيتاً، وقد عارض فيها «بردة البوصيري»، والمعارضة أن يقوم الشاعر بكتابة قصيدة على غرار قصيدة أعجب بها، وعلى نفس الوزن والقافية والمضمون والغرض، وتظهر فيها أصالته وتفرده، وموهبته الفذة، التي تفرض شخصيته الشعرية من دون تقليد، بل إن شوقي، من تواضعه، يقول إنه نهج النهج نفسه، ولذلك سماها «نهج البردة»، وقد مدح البوصيري في أبيات منها: (المادحون وأرباب الهوى تبع... لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم)، ويقول في مطلعها:

ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلَمِ
                  أَحَلّ سفْكَ دمي في الأَشهر الحُرُمِ
رمى القضاءُ بعيْني جُؤذَر أَسدًا
                 يا ساكنَ القاعِ، أَدرِكْ ساكن الأَجمِ
لما رَنا حدّثتني النفسُ قائلةً
                  يا وَيْحَ جنبِكَ، بالسهم المُصيب رُمِي

وتتميز قصائد البردة، وتتشابه في نسق بناء القصيدة من حيث الاستهلال الداخلي للعبور من غرض إلى آخر في القصيدة الواحدة، بما يشكل توطئة مناسبة للدخول من الغزل إلى المديح النبوي الذي يشكل المركز والغاية وبيت القصيد في القصائد كلها.. وهذه العملية من الصعوبة بمكان بحيث تحتاج إلى موهبة شعرية استثنائية، وخبرة كبيرة في كتابة القصيدة وبنائها الفخم الذي تفرضه شخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته.. وهو ما تجسده موهبة الشعراء الثلاثة في القدرة على العبور بسلاسة من الفضاء الأرضي إلى فضاء العلا والتسامي، اللذين قد يبدوان متناقضين، لكن الطاقة الشعرية الفذة للشعراء الثلاثة استطاعت تهيئة الأجواء للقارئ للدخول في أجواء مديح النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، يقول كعب بن زهير:

كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ
                 يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني
                والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِراً
               والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ

ويقول البوصيري:

وكَيْفَ تَدْعُو إِلىَ الدُّنْيَا ضَرُورَةُ مَنْ
                     لَوْلاَهُ لَمْ تُخْرَجِ الدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْ
                    نِ وِالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلاَ أَحَدٌ
                    أَبَرَّ فيِ قَوْلِ لاَ مِنْهُ وَلاَ نَعَمِ

ويقول شوقي:

صَلاحُ أَمرِكَ لِلأَخلاقِ مَرجِعُهُ
                         فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ
وَالنَفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَةٍ
                         وَالنَفسُ مِن شَرِّها في مَرتَعٍ وَخِمِ
تَطغى إِذا مُكِّنَت مِن لَذَّةٍ وَهَوًى
                        طَغيَ الجِيادِ إِذا عَضَّت عَلى الشُكُمِ
إِن جَلَّ ذَنبي عَنِ الغُفرانِ لي أَمَلٌ
                       في اللَهِ يَجعَلُني في خَيرِ مُعتَصِمِ

....

لَزِمتُ بابَ أَميرِ الأَنبِياءِ وَمَن
                      يُمسِك بِمِفتاحِ بابِ اللهِ يَغتَنِمِ
فَكُلُّ فَضلٍ وَإِحسانٍ وَعارِفَةٍ
                     ما بَينَ مُستَلِمٍ مِنهُ وَمُلتَزِمِ

وقد شكّل الدعاء ملمحاً مشتركاً في نهاية قصيدتي البوصيري وشوقي، وهي نهاية متماسكة تختتم الأداء الشعري بحيث تنفتح القصيدة مرة ثانية على فضاءات أوسع، تمجد قدرة الخالق ومعجزاته وآياته، وترسم لوحة من الضراعة إلى الله ابتغاء فضله في حسن الختام.

البديعيات

إن ما يؤكد تفرد قصائد البردة، أنها تنفرد بهذه التسمية، وسببها والقصد منها..على الرغم من وجود العديد من القصائد الكبيرة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.. ومن هذه القصائد العديد من المطولات الشعرية في المضمون نفسه أطلق عليها «البديعيات»، ومن أهمها بديعية «صفي الدين الحلي (677 ه- 750ه)، الميمية، وتقع في «145» من بحر البسيط، ومطلعها:

إِنْ جِئْتَ سلعًا فَسَل عَن جِيرَةِ العَلَم
                      وَاقْرَ السلامَ عَلَى عُرْبٍ بذي سَلَمِ

ومنها بديعية ابن جابر الأندلسي «698 ه - 780 ه» وهي كالبردة، أيضاً، في البحر والقافية والغرض، ومطلعها:

بطيبةَ انْزِلْ وَيَمِّمْ سَيِّدَ الأمم
                 وَانْثُرْ لَهُ المَدْحَ وَانْثُرْ أَطْيَبَ الكَلِمِ

كما نظم عز الدين الموصلي المتوفى سنة 789ه البديعية التي مطلعها:

بَرَاعَةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي العَلَمِ
                   عِبَارَة عَنْ نِدَاءِ الُمفْرَدِ العَلَمِ

وقد أعجب ابن حجة الحموي: (767 -837ه) صاحب كتاب «خزانة الأدب» ببديعيتي الحلي والموصلي فألف بديعيته وسماها «تقديم أبي بكر» وجاءت في «142» بيتاً، وهي ميمية على البحر البسيط، أيضاً ومطلعها:

لِي فِي ابْتِدَا مَدْحِكُم يَا عُرْبَ ذِي سَلَمِ
                       بَرَاعَةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي العَلَمِ

ومن الجدير بالذكر هنا، أن الشاعر محمود سامي البارودي (1839 1904) كتب مطولة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، تقع في أكثر من 440 بيتاً، جارى فيها قصيدة البوصيري، قافية ووزناً وسماها «كشف الغمّة في مدح سيّد الأمة»، ولكنها لم تبدأ بالغزل، على سياق بردة البوصيري، وواضح أنها سبقت «نهج البردة» في معارضتها، ومطلعها:

يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمْ دارَةَ العَلَمِ
                    وَاحْدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وَإِن مَرَرتَ عَلى الرَّوحَاءِ فَامْرِ لَها
                     أَخلافَ سارِيَةٍ هَتّانَةِ الدِّيَمِ

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"