حزام أمان الكتابة

04:03 صباحا
قراءة 5 دقائق

يوسف أبولوز

(1)

القراءة حزام أمان الكتابة، والقراءة خريطة طريق للكتابة. القراءة منشط حيوي للكتابة ومقدمة عضوية لها، وكل كتابة عظيمة وراءها قراءة أكثر عظمة.

لا كتابة موسوعية، مثقفة، علمية، معلوماتية، وفكرية، بحثية، كتابية أدبية رفيعة؛ كتابة إبداعية أكثر رفعة، إلا وسبقتها قراءة أكثر اتساعاً، وأكثر شمولية. قراءة في التاريخ لكي تعيد كتابة التاريخ أو تراجعه أو تنقده أو تُسائله. قراءة في الفكر لكي تنتج فكراً ناقداً أو فكراً إنسانياً يكمل قيمة ونبل الفكر القديم.

قراءة في الأديان لكي تقترب من الله، وتقترب من الفردوس؛ قراءة في الحضارات لكي تعرف عبقريات الشعوب وتضيف إليها رؤيتك واستنتاجك ونقديتك. قراءة في الفلسفة لكي تكشف أنت بالكتابة سر الحكمة والوجود والمعرفة. قراءة في الجماليات لكي تتذوق أنت بالكتابة إبداع الإنسان وإبداع الطبيعة معاً؛ قراءة في الأساطير لكي تضيف أنت أسطورتك إلى ماضي فكر الإنسان البري أو الإنسان الرعوي أو الإنسان الفطري.

القراءة تغذية الكتابة، وما من كتاب جيد إلا وقد وُلد من كتب سابقة عليه.

إن بوسعك أن تصنع كتاباً واحداً من عشرة كتب، وبوسعك أن تصنع كتاباً واحداً من مئة كتاب وأكثر، وفي المقابل بوسعك أن تصنع كتباً وليس كتاباً واحداً من تأملاتك، ومن مشاهداتك، ومن رحلاتك، ومن صداقاتك، ومن تجاربك، ومن خساراتك، ومن بطولاتك، وفي كل الأحوال أنت قارئ. إن لم تكن قارئ الكتب، فأنت قارئ الحياة.

(2)

عند صناعة الكتب نتوقف. صناعة كتاب واحد هي دورة طويلة من القراءة؛ بل القراءات تلو القراءات. لا تولد الكتب من الورق والحبر. هاتان أداتان وظيفيتان؛ بل تولد الكتب من القراءة. والقراءة تعني المعرفة؛ تعني الفكر والتربية والوعي. القراءة تعني الانتقال من الجهل والجمود والتحجّر إلى الانفتاح؛ بل إلى الحرية.

كل جهد، وكل عداء للكتاب هو عبودية. ومن يحرق كتاباً إنما يحرق إنساناً. فالكتاب كائن حي يفتح عينيك على الحرية فتقاتل وتموت من أجلها، كما يفتح عينيك على العبودية فترفضها وتنبذها، وتحارب سادتها وصناعها.

لكي تكتب، عليك أن تمر بما يشبه تاريخ القراءة وجغرافياتها المتعددة، وفي كل جغرافية لك هناك صديق ينتظرك، فتأخذ عنه، قد تضيف إليه، ولكنه في كل الأحوال يضيف إليك. إنك تمتص الكتاب، أو تمتص الكاتب، لتكون تالياً نسقك أنت في ما بعد عندما تكون في موضع الكاتب، أو عندما تكون كاتباً.. يقول الكاتب البريطاني تيم باركس: «أؤمن بأن القراءة هي مهارة عملية. حدث فني. بالتأكيد ليست مسألة امتصاص سلبي»، ويضيف باركس أن بورخيس طالما أشار إلى أنه قبل كل شيء قارئ محترف.

القراءة الاحترافية أو المحترفة تؤدي إلى كتابة احترافية. والكتاب «الثقيل» بالمعنى المجازي الذي يفيد أنه كتاب غني وجيد، سبقته قراءات «ثقيلة»، ومن هذه النماذج أنيس منصور الذي كان يجلس على أكثر من خمسين كتاباً، وهو أيضاً مثل بورخيس قارئ محترف، له خزانة كتب احترافية.

في كتابه «أعجب الرحلات في التاريخ» يستهل مقالته الأولى في الكتاب بهذه السطور:

هناك ثلاثة أنواع من الرحلات:

أن تسافر.

وأن تقرأ الكتب.

وأن تقرأ كتب الرحلات.

وبالفعل صنع أنيس منصور كتابه هذا من عشرات؛ بل من مئات الكتب التي قرأها، وستظهر «أعراض» هذه الكتب في «أعجب الرحلات في التاريخ»، ولكن قبل أن نشير إلى هذه «الأعراض» إن أمكن القول، علينا أن ننتبه إلى أمثولة أنيس منصور التي تتلخص في هذه العبارة ذات الصلة بكتب الرحلات، فالذي لا يقرأ الأماكن ولا يقرأ الوجوه، ولا يقرأ الناس وتاريخهم وأساطيرهم وثقافاتهم الشعبية وحتى تراثهم الموسيقي والمعماري والغنائي والعقدي، لن يصنع كتاباً جيداً.

يقول منصور: «كثيرون راحوا وجاؤوا (يقصد سافروا) وجاؤوا كما راحوا، لم يتغير منهم شيء، وسبب ذلك أن نفوسهم صمّاء.. لم تنفتح على شيء. ولم يتسلل إليها شيء. والمثل القديم يقول: حمار سافر، لن يعود حصاناً».

قراءات تلو قراءات، قراءات انسيابية مرتبة منظمة تصنع كتاباً واحداً بهذا البناء المتدرج المنضبط، المحكوم إلى سياقين متوازيين؛ سياق القراءة أولاً، وسياق الكتابة ثانياً.

مثال آخر، ممدوح عدوان في كتابه «حَيْوَنة الإنسان». إن هذا الشاعر المترجم المسرحي الباحث النثري المتدفّق قارئ محترف هو الآخر، وكتابه «حيونة الإنسان» مصنوع من كتب موضوعاتها واحدة في السياق والمعالجة. راح ممدوح عدوان وقرأ عشرات الكتب التي صنع منها هذا الكتاب. أحياناً يقرأ كتاباً أو كتباً عدة في سيكولوجيا الجماهير، وسيكولوجيا الطاغية والتعذيب وتاريخه، ورموزه ليصنع فصلاً واحداً حول القمع مثلاً، أو حول تحويل الإنسان واستلابه ومحو إرادته.

قرأ ممدوح عدوان «تاريخ التعذيب» للباحث برنهاردت. ج هرود، وقرأ قصة «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، وقرأ ما جرى من مذابح مرعبة في مخيم صبرا وشاتيلا، ومخيم تل الزعتر الفلسطينيين، وقرأ مسرحية «الشلال» لرامبرانت طاغور، وقرأ روايات عدة ليبني عليها بحثه هذا مثل رواية «ذئب السهول» للكاتب الألماني هيرمان هيسة، وقرأ في الشعر أيضاً ليخدم صناعة كتابه هذا، فقد قرأ قصيدة محمود درويش «خطب الديكتاتور الموزونة».. وهذا غيض من فيض قراءات ممدوح عدوان ليصنع كتاباً واحداً هو «حيونة الإنسان».

(3)

أحياناً؛ بل في كثير من العناوين البحثية على وجه الخصوص يحتاج الكاتب إلى قراءة خزانة من الكتب والمراجع والهوامش والإحالات والشروح والتوضيحات، هي معاً وفي حد ذاتها تشكّل «كتاباً» أو «كتيباً» مثبتاً في آخر صفحات الكتاب.

وعلى سبيل المثال يضع الباحث السويدي يلمار فورش هوامش ومصادر ومراجع جاءت في حوالي 120 صفحة لكتابه المهم «حدود المادة.. الكيمياء والتعدين والتنوير»، في حين جاءت مادة الكتاب فقط في نحو 250 صفحة.

هذه نماذج مختلفة في موضوعات بحثية متنوعة والقاسم المشترك فيها هو القراءة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القراءة ليست فقط وظيفة بحثية، فهي إلى جانب ذلك، نشاط إبداعي في حد ذاته، والقراءة هي أحد المفاتيح المتاحة للدخول إلى شخصية وسيكولوجية المؤلف. وبذلك، فإن القارئ يقرأ بأكثر من مستوى، وكل قراءة لها أصلاً أكثر من مستوى: المستوى اللغوي، والمستوى الفكري، والمستوى البحثي، والمستوى التربوي، والمستوى الجمالي، وربما من هنا أي بتأثير من هذه المستويات يذهب القارئ إلى قراءة كتاب بعينه أكثر من مرة، وربما يكتشف في القراءة الثانية أو الثالثة ما لم يكتشفه في القراءة الأولى.

ولنعد مرة ثانية إلى «تيم باركس» يقول: «يدعي نابوكوف أننا لدى تناولنا للرواية للمرة الأولى تغرقنا كمية المعلومات الهائلة ويرهقنا الجهد الذي نبذله في التدقيق في السطور. فقط لاحقاً في لقاءات متتابعة مع النص سنبدأ برؤيته وتقديره ككل كما نفعل مع لوحة، وهكذا ليست هناك قراءة.. فقط إعادة قراءة».

آلية التفكير

في كتابه «الدين والدم» يقرأ الباحث البريطاني ماثيو كار تاريخ الأندلس، ومحاكم التفتيش، ولكي يصنع هذا الباحث كتاباً جيداً مقروءاً، فإنه ذهب إلى مراجع ومصادر تزيد على مئة. وكذلك يقرأ الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو العديد من المرجعيات ليصنع كتابه الممتع حقاً «العلامة.. تحليل المفهوم وتاريخه»، وعندما يتحدث صاحب «اسم الوردة» عن اللغة بوصفها، كما يقول، ليست الأداة التي نفكر من خلالها؛ بل هي الأداة التي نفكر بواسطتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"