دعوة إلى عناق الكون

03:26 صباحا
قراءة 6 دقائق
محمد إسماعيل زاهر

(1)

تدعونا الخريطة لكي نعانق الكون بأكمله، وقبل ذلك تحفزنا لكي نتعرف إلى أنفسنا وإلى الآخرين، وتدفعنا إلى تلمس أبعاد المكان الذي نعيش فيه، وإلى تخيل أمكنة لا مرئية، قرأنا عنها أو شاهدناها أو سمعنا بها، أو خزنتها الطفولة من حكايات الجدات، فلا مكان من دون أبعاد أو اتجاهات أو شوارع وأزقة وتقاطعات وبنايات أو حدود..الخ، لا نهائية هي أبعاد المكان، وتتجمع تلك الأبعاد بمفاصلها كافة لتشكل شبكة من الفروع والأغصان لا متناهية الكبر، وفي النهاية نجد أنفسنا أمام شجرة كثيفة ومعقدة تحتاج إلى معرفة لكي نسلك في دروبها، تتطلب، حتى لا تتحول إلى: تيه أو ضياع أو فراغ أو عدم، إحداثيات نبصرها ونعاينها بالحواس والعقل، هي شجرة المعرفة أو شجرة الخريطة على وجه الدقة، وكأن لا معرفة من دون خريطة.
المكان هو الخريطة، حتى تلك الأمكنة التي نفارق فيها أمنا الأرض، نطير أو نبحر، نفتش بحس الأركيولوجي الذي يبحث عن الآثار أو نحفر بعشوائية المغامر الذي يفني عمره سعياً وراء الكنوز المخبوءة في أعماق الأرض، أو نحلم بارتياد الفضاء، أو نرفع رؤوسنا لنتأمل الكواكب أو المجرات أو ندخل في مختبرات الأطباء يصطحبنا الولع والرغبة في اكتشاف الجينوم البشري، في كل هذه التحولات نحن نسترشد بخريطة.
الخريطة تاريخ، يقال إن بطليموس أول من رسم الخرائط في عام 150 قبل الميلاد، ولكننا لا نتصور أي إنسان عاش في أي مرحلة مهما كانت بدائية من دون خريطة، فالتنقل بين السهول والوديان، الصحراء والجبال، الأنهار والبحار مستحيل من دون خريطة، بل إن أساسيات الحياة نفسها تحتاج إلى خريطة: الأماكن الصالحة للزراعة.. مواسم المطر.. اتجاهات الرياح.. حركة الكواكب.. تقلبات الشمس والقمر.. أماكن الحيوانات الخطرة وأماكن الحيوانات القابلة للتدجين.. كل ذلك كان لابد له من خريطة، وربما لو تأملنا بعمق لوجدنا أن الخريطة تساوي الحياة نفسها.
الخريطة وجهة نظر في الآخرين، للاستفادة منهم، للتلاقح الثقافي، ولكنها أيضاً وسيلة لنهبهم، فوقائع الحروب وتاريخ الاستعمار والرؤى العنصرية التي نتجت عنها علوم الانثربولوجيا والاستشراق تأسست في الواقع على خريطة، سواء خريطة خارجية تتجاوز الحدود الوطنية لسرقة ثروات الآخرين، أو خريطة داخلية فكرية ترسخ للتفوق العرقي.
تتوزع رؤيتنا للأفكار على خرائط، ففي السياسة يمين ووسط ويسار، وفي الفكر تقدمي ورجعي، وفي الأدب حداثي وكلاسيكي..الخ، وفي التفاصيل هناك ألوان طيف لا نهاية لها.
علاقتنا بذواتنا لا تُدرك إلا عبر خريطة، فالجسد خريطة، هو ذلك الكون الأصغر الذي يزيد جهلنا بأبعاده يوماً بعد الآخر، فالوجه بمفرده خريطة مفتوحة على تأويلات لا حدود لها، وهناك خرائط للحواس، فالرائحة تحمل أثر المكان ويختلف أحساسنا بها في الصباح عن المساء، وتتحكم فيها درجة الحرارة وفقاً للفصول، والحال نفسه نجده إذا فكرنا في اللمس والبصر والسمع والتذوق، وكأن وعينا في أبسط معطياته ما هو إلا خريطة تجمع الحواس كافة.. هل نقول إن تفكيرنا ورؤيتنا للعالم وخياراتنا في الحياة مجموعة متشابكة من الخرائط.
الخريطة ليست هي الوعي أو أسلوب التفكير وحسب، ولكن شجرتها تضرب بجذورها أيضاً في أشد المناطق عتمة ومراوغة داخل أعماقنا، فسلوكياتنا وتحضرنا، وتقيدنا بالأعراف والتقاليد، لا تعبر في النهاية إلا عن قمة جبل النفس الظاهرة، أما وديان تلك النفس وسهولها، أرضها المنبسطة والغامضة، أي ما لا ندركه، و نعجز عن الإمساك به والمتمثل في الأحلام واللاوعي فيشكل بدوره معطيات سحرية حاول مفسرو الأحلام والعرافون والشامانات وكاتبو الأساطير..الخ التماس معها، وجاءت الآداب والفنون والفلسفة وعلوم النفس والاجتماع..الخ لاكتشاف مفاتيحها، وإضاءة زواياها، وتلوين أركانها ورسمها بمقياس رسم أكبر، ولكنها لاتزال ممتنعة.. عصية على الفهم، وبرغم ذلك نحن نصر في اللغة أحياناً على القول: خرائط الأحلام، خرائط اللاوعي.. فالخريطة هي وسيلتنا، ربما الوحيدة، ونحن نكافح لاكتشاف تلك الوديان والسهول اللامرئية داخل ذواتنا.

(2)

نحن لا ندرك اللغة إلا عبر خريطة، تتقاطع فيها الأسماء والأفعال والحروف وعلامات الترقيم..الخ، ثم نرتب مكونات الجملة، ونهندس الفقرات، ونتخيل شكل النص، ثم نجلس لنكتب ونحن في الحقيقة لا نفعل إلا البحث عن المكان المناسب لكل كلمة داخل تلك الخريطة المسماة «الكتابة» التي تقابلها أيضاً خريطة القراءة، وهناك نصوص نشعر معها بالفعل أننا في حضرة خريطة، ومن هنا فكرة الأطالس الأدبية التي ترسم خرائط لمفاصل المكان في الرواية والقصة والشعر والفنون التشكيلية والمسرح والسينما.
لقد استطاعت الخريطة في علاقتها باللغة وآدابها أن تشيد عالمها المميز، عالم احتوى بين سطوره على بلاغة من نوع خاص.
القارئ لكتاب «شخصية مصر-1967» لجمال حمدان يجد نفسه أمام جغرافي أديب، أو أديب جغرافي، وبعد الانتهاء من القراءة يشعر ببلاغة ما للخريطة التي تتسع مداراتها في ذلك الكتاب، لتشمل إلى جوار خرائط المكان، خرائط أخرى للتاريخ والسكان والهجرات والمناخ والاقتصاد والثقافة والجيولوجيا.
شيد حمدان أطروحته بأكملها مستنداً إلى خريطة، ومن خلال جمالية خاصة للتناقض بين مكونات تلك الخريطة في علاقتها بأبعاد وضعها الداخلي ومعطيات موقعها في العالم، صنع لغة جديدة دخلت في صلب الخطاب الفكري والسياسي العربي اللاحق. في كل صفحة من الكتاب هناك فقرات بأكملها مكتوبة بروح الشاعر، ولكنها ببطء وتؤده تصنع خريطتها الخاصة، يتحدث عن معادلات الامبراطورية المصرية القديمة بالقول: «ثمة أولاً معادلة الصراع بين الرمل والطين، أي بين الصحراء والنهر، أو الاستبس والمزروع، أو أخيراً بين الرعاة والفلاحين. والأغلب أن هذه كانت معادلة محلية نوعاً، وتسود في المراحل المبكرة عامة، ثم تترك مكانها لمعادلة أهم وأوسع هي معادلة الصراع بين قوى البر والبحر، بين قوى الفلاحين والملاحين، أو كما يسميها البعض بين ذئاب البر وذئاب البحر أو قراصنة السهوب وقراصنة البحر».
في كل كلمة من النص السابق حكاية تاريخية وموقع جغرافي، ومن جماع الكلمات تتأسس خريطة حمدان الفكرية الباحثة في قلب الأضداد والأشباه، وعلى امتداد الكتاب بإمكان أي قارئ وضع القلم جانباً لصناعة قائمة تنطق ببلاغتها الخاصة جدا، بلاغة ترتحل بك بين: الموقع/ الموضع، الدور/ المكانة، الرأس/ الجسد، العاصمة/ الأقاليم، الريف/ المدينة، الزراعة/ الصحراء، القديم/ الجديد، المركز/ الهامش، الحضارة/ الطبيعة، الثبات/ الامتداد، الفلاحين/ الملاحين، الأمة/ الدولة، المسافة/ المساحة، العزلة/ الاحتكاك، الرأس الكاسح/ الجسم الكسيح، الرمل/ الطين..الخ.

(3)

حين نطالع ما يعرف بأدب ما بعد المحرقة، عندما تنتهي حضارتنا نتيجة لكارثة بيئية مدمرة، ويتبقى عدة أفراد يبدأون دورة حضارية جديدة، نجد المعاناة التي يعيشها هؤلاء، ولكننا نلاحظ أيضاً أن البطل يحتفظ ببقايا قيم إنسانية يحاول أن ينقلها إلى من ولدوا بعد «المحرقة» من خلال الذاكرة، ولكن الأهم أن هذه الذاكرة لا تستعيد ألقها إلا من خلال خرائط.
في رواية «الطاعون القرمزي» لجاك لندن، يصف الجد لأحفاده المدن بشوارعها وبيوتها وفنادقها ومدارسها ومستشفياتها.. يردد على مسامعهم ذلك كثيراً حتى لا ينسى الخريطة، يصف التركيب الاجتماعي للحضارة من خلال خريطة.. يعلمهم الاتجاهات الأربعة، وكلما تذكر لمحة من إحداثيات شكلت مجمل حياته السابقة كان يصاب بسعادة وحالة من النشوة، فمن دون خريطة نفقد الذاكرة ويبتلعنا النسيان ويخيم الحزن على أرواحنا.

(4)

الخريطة: طريق واتجاه، ذات وآخر، تاريخ وجغرافيا، لغة وكتابة وبلاغة، وذاكرة.. وأيضاً هوية إنسانية وثقافية، لم يوجد الإنسان على هذه الأرض يوماً من دون خريطة منذ البحث عن مواقع الأشجار التي يقطف منها الثمار وحتى التفكير في الهجرة إلى كواكب أخرى. لقد رفض معظمنا العولمة لانها بشرتنا بعالم تختفي فيه الحدود، وتغيب عنه ألوان الأفكار، وينُمط فيه البشر، ويعيشون فيه عبر وعي زائف، نتحرك فيه بسرعة من دون تلمس موطئ قدم لخطوات راسخة، نمشي فيه بخفة من دون شعور بروح الطريق، نفتقد فيه البوصلة، ونعاني فيه اختبار مشاعر تحاول أن تضللنا بوسائل تمنحنا قدراً من السعادة الكاذبة المتمثلة في اللعب على وتر الترفيه وإطلاق العنان لثقافة الاستهلاك.
في هذا العالم الذي تحاول العولمة أن تشيده، غاب كل ما يمكن أن تشعر الذات من خلاله أنه ينتمي إليها، غابت فكرة الأنا المميزة التي لا تجد راحتها وعزاءها إلا في خريطة خاصة، أبعادها معروفة ومن السهولة إدراك سلالتها ومجموعتها البشرية ذات التاريخ والآمال والأحلام والإحباطات والانتصارات والانكسارات التي لا يشاركها أحد فيها.
هي الخريطة عندما تحمل بداخلها جدلها الجمالي بين الإنساني والثقافي، الأنا والآخر، الحلم والواقع، البدائي والمتحضر، الانغلاق والانفتاح. هي الخريطة التي تدفعنا، كما نحن، إلى معانقة العالم. هي الخريطة التي من دونها نجد أنفسنا في متاهة لن نستطيع الخروج منها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"