ديوان القصيدة الواحدة..الإجابة ليست نهاية السؤال

05:23 صباحا
قراءة 7 دقائق
** الشارقة: محمدو لحبيب

النفس الملحمي، العبارة الكثيفة، الموضوع الواحد الذي يختزل في ثناياه، وفي كل جملة شعرية منه كل هواجس الإنسان وما يعتريه في حاضره وما يستدعيه من أشباح ماضيه كي يعيد إنتاجه في مستقبله، كل تلك هي السمات الأبرز لتجربة الشاعر الراحل حبيب الصايغ والتي تندرج أساساً فيما يعرف بديوان القصيدة الواحدة.
لقد بدأ الصايغ مبكراً، ومنذ بداياته تلك التجربة حين أصدر في عام 1980 م، قصيدته الأولى في إطار ذلك الشكل الشعري وهي «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة»، ولم يتوقف هناك في إطار المحاولة الأولى ومتعة الاكتشاف التي تعتري الشاعر حين يجرب شيئاً لأول مرة، بل أراد عن وعي الاستمرار في تجربته تلك، مازجاً بين الرؤية الوجدانية لذات الشاعر، وعين نقدية مبصرة بما يمكن أن يحمله الشكل الجديد لقصيدته، وما يمكن أن يفتح أمامها من خيال متسع باتساع كل ما يمكن أن يبلغه العقل.
ثلاث سنوات فقط بعد ديوانه الأول في ذلك الإطار والشكل الشعري، كانت كافية للصايغ كي يعيد التجربة مرة أخرى مع ديوان ضم كذلك قصيدة طويلة بعنوان «ميارى» وصدر 1983م، ثم انتظر الصايغ حتى سنة 2011 ليصدر ديوانه الثالث ذا القصيدة الواحدة بعنوان «أُسمِي الردى ولدي».
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح عن تلك الفترة الطويلة نسبياً والتي فصلت بين «ميارى» و «أسمِي الردى ولدي»، لكن الأهم من بينها ليس تلك التساؤلات المتعلقة بانشغالات الشاعر، أو مدى تفضيله لبقية الأشكال الشعرية الأخرى، كالدواوين العديدة التي أصدرها في تلك الفترة والمتضمنة لعدة قصائد على الطريقة العادية التي ينتهجها بقية الشعراء.
إن السؤال الذي ينبغي طرحه تلقائياً بالنظر إلى البداية الريادية المبكرة للصايغ في مثل هذا الشكل الشعري، واستمراره فيه بعد ذلك هو: هل يعطي مثل هذا الشكل الشعري للشاعر حبيب الصايغ مساحة خيال، فسحة إبداع، طاقة نور لا تمنحها له بقية الأشكال الشعرية الأخرى مثلاً؟ إنه سؤال ليس خاصاً بالصايغ بطبيعة الحال بل بكل الشعراء الذين كتبوا مثل تلك القصائد التي تستطيل لتشكل ديواناً قائماً عليها بشكل متفرد، إنه سؤال يستدعي منا في هذا المقام، وقبل أن نغوص في تحليل دواوين الصايغ ذات القصيدة الواحدة، أن نتعرف إلى التأصيل التاريخي لمثل هذا الشكل الشعري، وكيف تعامل معه الشعراء، ولم يعد شكلاً جاذباً لعديد المبدعين؟

تأصيل

المعروف عند أغلب الباحثين والنقاد أن نموذج الديوان بالقصيدة الواحدة قد ظهر لأول مرة في عصرنا الحديث في بدايات القرن العشرين عبر الأخوين الشاعرين فوزي المعلوف وشفيق المعلوف، فكان ديوان الأول «بساط الريح»، والثاني كان ديوانه بعنوان «عبقر»، وكان ذلك شكلاً شعرياً استثنائياً وغير مألوف لدى العرب، رغم أنه كان معروفاً في الغرب وآدابه.
واللافت للنظر أن الشاعرين المعلوف تأثرا بشكل واضح بوجودهما في المهجر، فهما من جماعة العصبة الأندلسية التي كانت توجد آنذاك في البرازيل وتحديداً في سان باولو، فجاء كل ديوان محملاً بهواجس الغربة، وبتشظي الذات جراءها، وحمل كل منهما ملحمة شعرية طويلة، لقيت إشادة واهتماماً من كبار الشعراء والنقاد في الوطن العربي.
حيث حظي ديوان «بساط الريح» باهتمام وإشادة من عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، كما حظي «عبقر» كذلك بالنقد من قبل ميخائيل نعيمة في كتابه «الغربال الجديد» حيث قال عنها: «حسب الشاعر فخراً أن يدلل بمنظومته هذه عن مرونة شعرنا العربي في معالجة أي موضوع مهم تشعب واتسع، وأن يكون سبّاقاً إلى ارتياد آفاق شعرية ما خطرت لشعرائنا من قبله ببال».
الشكل الذي اختاره الشاعران، لم يكن وليد الصدفة، ولا هو من باب اقتناص الفرادة والتميز فقط، بل كان تعبيراً عن رغبة منهما في الارتحال خلف حدود الذات المرئية، والدخول في عوالم الغرائبية، والتعبير من خلالها عما يفوق حدود التصور العادي من معاناة النفس والجسد من تأثيرات الغربة والاغتراب والنظرة إلى الأصول العربية وإلى الوطن الأول.
روت «بساط الريح» رحلة أسطورية قام الشاعر عبر استدعاء حكاية بساط الريح، لكنه حمّلها ما شاهده وخبره، وكأنه أراد أن يؤسس لمفهوم نقدي يصف الشاعر بالسندباد.
وانتهج شقيقه شفيق تقريباً نفس النهج وإن بدا متأثراً بالشاعر الإيطالي دانتي أليغري في رحلته الخيالية المشهورة نحو الجحيم، حيث جال في ذلك الوادي السحري الذي يعرفه الشعراء ويصفونه ويوظفونه بكل معانيه، ووصف مشاهداته في «عبقر»، حيث كان ينتقل بسرعة خاطفة من حال إلى حال، ومن أجواء إلى أجواء أخرى، ويستعرض أمام قارئه أشكالاً ورسوماً تتغير بحسب الغاية التي يريد الشاعر الوصول إليها، وبحسب الشعور الذي يريد أن يبعثه في قارئه.
ربما يمكن اختزال سمات ديوان القصيدة الواحدة، أو دوافع ولوج الشاعر إلى تجربته في أنه مساحة واسعة لملحمة شعرية لا تنتهي، ولا تتقيد بعدد صفحات معينة، ولا بموضوع واحد جامد التناول، بل تفتح الموضوع ليحوي كل ما يمكن أن يتعلق به من مواضيع فرعية، وتحافظ في نفس الوقت على الفكرة الموحدة.
ويرى بعض النقاد أن القصيدة الطويلة تمنح لشاعرها أن يروي حكاية ارتحال روحي أو عاطفي (أو غير ذلك) مما مر به، وبذلك ينصب شعره على الحي والمدهش والغريب فيتخلص بذلك من «النظم» بمعناه المعروف لينصرف إلى ما يحقق جوهر الشعر. وتمكنه كذلك من أن يعود إلى تراثنا العربي الإسلامي فيأخذ منه موضوعاً قابلاً لتوليد أعظم الرؤى والصور والأفكار مثل فتوح الإسلام أو الأندلس أو سقوط غرناطة، وغير ذلك مما يزخر به تاريخنا من صفات إنسانية خالدة، وهو بهذا يحقق معنى توليد السرد داخل القالب الشعري.
هنا علينا أن نتساءل هل كانت تجربة الصايغ في كتابة القصيدة الطويلة أو ديوان القصيدة الواحدة عبر دواوينه الثلاثة الآنفة الذكر منعزلة عن تلك التوصيفات والنماذج السابقة؟ أم أنها كانت تطويراً شعرياً مكثفاً لها؟
تشظيات وآمال مكسورة
في «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة» يجد القارئ نفسه منذ البداية أمام نفس نقدي واضح للحال العربية الراهنة آنذاك، ولتشظياته وآماله المكسورة، ويلاحظ القارئ كذلك مبكراً ومنذ المقاطع الأولى تيمة الارتحال والعودة إلى الصحراء العربية، والثقافة البدوية وملحماتها، حين يصف الشاعر نفسه بأنه ابن ماجد، في محاولة ذكية لتوظيف دلالات رمزية لرحلة البحار العربي المشهور أحمد بن ماجد، ويبدأ الصايغ ديوانه - القصيدة بمشهد يجتذب قارئه فوراً إلى رحلته تلك حين يقول:
«تشاغبني البيد في ذروة الوحدة العاقلة/ وزوادتي فوق ظهري/ وعمري نفق».
عناصر الرحلة واضحة جداً أمام القارئ منذ الكلمات الأولى، نحن أمام نموذج شعري نقدي للحاضر يستحضر التراث العربي القديم ومفرداته، بغية تأسيس صلة بينهما، والسرد محدد بدقة فالرحلة عبر المكان تتم داخل العمر الذي يحوله الشاعر إلى نفق بكل ما تحمله كلمة النفق من معنى، والزمان محدد كذلك من خلال وسيلة الارتحال التي يحملها العابرون للصحراء في عز القيظ عادة، نحن إذاً أمام مشهد متكامل منذ البداية، ولم يبق إلا أن نبدأ الرحلة مع الشاعر داخل نفقه الافتراضي ذلك، وهو أي شاعر يوفر لنا الشغف الكامل بذلك حين يبدأ الوصف في الجمل الشعرية التي تلي مقدمته تلك فيقول:
ظلام تمدد في الوقت ثم احترق/ ولا شيء حولي سواي/ وظلي/ يراودني عن نقائي الجريح/ ويلفظ باقي الرمق/ فأبقى وحيدا/ أجرجر كل ذنوبي التي سوف توجد
ثم يكثف الصايغ في نفس قارئه أجواء تلك الملحمة وذاك الارتحال في مقطع آخر حين يقول:
تشاغبني البيد/ تقلعني من جذوري السجينة/ في قمقم الأرض/ سيان عندي التذكر والموت/ كنت ابن ماجد ساعة ألقي الشراع/ ففر القراصنة العاشقون/ إلى حبة القلوب/ واقتسموا فيئها/ كنتُ كفيه/ كنتُ التشقق في قاع رجليه/ بصمته المنتقاة/ انطلاقته يوم شق الهدير الأليف».
وينطلق الشاعر أكثر فأكثر في توصيف وجدانه المعبر عن وجدان أمته وحاضرها المثقل بالخيبات حين يقول في مقطع آخر:
«وحيد أنا/ البيد حولي/ ترسمني من جديد/ وتركض نحو السواحل/ مجنونة الخطو/ زوادتي فوق ظهري، وعمري تراجع عني/ وحيد/ وحيد/ وحيد/ وحولي المسافات/ تسخر مني/ تشاطرني الحزن/ إن التعازي تقبل/ حين القوافل تعلن أسماءها فجأة/ وتجيء محملة بالبهارات والصحو/ وحدي في البيد/ كم تبعدين ديار بني عبس/ كم تبعدين عن السفر المتواصل؟ كم تقربين من الحلم».
إلى أن يقول موظفاً لمعلقة عنترة بن شداد التي يتغزل فيها بحبيبته عبلة قائلاً:
«يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
ويا دار عبلة/ خلفي المحطات/ تسأل عن لون عينيك/ والشجر الاصطناعي/ يسأل عن رئتيك»
تلك الحالة الوجدانية المكثفة، وذلك الارتحال نحو أفق غير محدود من الرؤى والأفكار يكرره الصايغ بنفس النمط العام وإن اختلفت التفاصيل والجزئيات والموضوعات في قصيدتيه الطويلتين «ميارى» و«أسمي الردى»، وهو يستفيد قطعاً في كل ذلك من قدرته الإبداعية العالية على استحضار وتوظيف الرموز التراثية، وإعادة تشكيلها تماماً كما يشكل الفنان منحوتته وفق ذوقه العام، ووفق الألوان العديدة التي يمزجها بطريقته الإبداعية لينتج شكلاً مدهشاً من أشياء مألوفة.
في «ميارى» يضعنا الصايغ أمام سؤال يمكن أن يتكرر آلاف المرات دون أن يفقد معناه حين يقول:
«وتر هذا الذي يقتد من عمري/ دم المستقبل/ وتر أم ترجمان؟».
وكأن الصايغ أراد بذلك التساؤل في مقدمة القصيدة وفي المقطع الأول منها فتح باب التساؤلات الفلسفية التي تهجس في نفوس العديدين، ولعله أراد كذلك من خلال قصيدته الأخرى «أسمِي الردى ولدي»، مواصلة تلك الأسئلة التي لا تنتهي بإجابات محددة، فهناك صاغ من خلال مفارقة إبداعية علاقة بينه والموت، وكأنه كان يدرك أن تلك الأسئلة ستتوالد معه عن الحياة والموت ومكنوناتهما الوجودية، مبحراً بقارئه في بحر متلاطم بعزيمة ربان قادر على تجاوز كل تلك الإشكالات المتداخلة، وصناعة مشهد شعري إبداعي متميز من خلالها، فهو يقول فيها:
«أجيئك والعمر ينهي مكيدته حيث يبدي/ وحيث المنايا معلقة في حوانيت وجدي/ أسمي الحجارة فلذة كبدي/ تعبت قليلا، وأتعبني طائر الحظ/ لا أتذكر عينيه/ لكن كلامهما وطن وينادي على الغرباء/ كنت أطلقته في البدايات، لكنه لم يعد/ قد يكون أسير البدايات مازال/ أو أنه تاه في التيه/ أو في العبارة/ أو أنه قد تحول شيئا سوى الطير/ حرفا وأيقونة/ جدولا أو أداة/ أو زجاجة حبر/ وتشاءمت ثم تفاءلت حتى أكون جديرا/ بمجد السلاله».
ويتكثف المعنى الذي يقصد الموت حين يخاطب الحياة، فيستحث فيها القدرة على الصراع حين يقول في مقطع آخر:
«ويكفيك يا قلب موتك/ فالموت حجتك الدامغه/ ولا أثر لطيور القيامة فيك/ وفوضاك تكفيك/ ويكفيك ما فيك/ فانهض لعلك تقوى على الموت».


الدهشة

ما يمكن الوصول إليه بعد ذلك الإبحار مع دواوين القصيدة الواحدة عند الصايغ هو أننا أمام تجربة ثرية، حبلى بالمفاجآت المدهشة، وفي كل قراءة تتحول إلى ثمر ينتج معنى وفكرة وإحالات ودلالات مختلفة، نحن أمام شاعر قد رحل لكنه ترك نصوصاً حية تستدعي منا التأمل فيها في كل مرة نقرأها، لا لكي نستمتع بقوة العبارة عنده، وبعمق المعنى، بل لكي نطرح ضمن أفقها تساؤلاتنا التي حملها هو ذات يوم ووضعها في فضاء قصائده الثلاث تلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"