عبدالله السعدي و”الفندال”

الصامت الذي تمشي الكلمات على وجهه كالحشرات (1-2)
04:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

قبل سنين قليلة رأيت صورة وقرأت خبراً عن رجل يحمل فندالاً كبيراً بين يديه يشبه، وفي حجم الطفل الرضيع. وكان ذلك، أي الشبه والحجم ما ينشغل فيهال خبر، ولعل ذلك الرجل كان من رأس الخيمة أو الفجيرة حيث يزرع الفندال (البطاطا الحلوة) في موسمه بكثرة.

استحضرت هذه الصورة وأنا أشاهد معرض الفنان عبدالله السعدي عن الفندال (المعرض الشخصي السابع له، وعنونه ب الفندال، بطاطا حلوة، صالة جمعية الامارات للفنون التشكيلية/الشارقة، بدءاً من 31/1/،2008 ولم يشغلني كثيراً الفندال المقدم مع بوفيه افتتاح المعرض، فتكوين جمهور للانشطة الثقافية ب البوفيهات والأكل أراها فكرة بليدة حتى ولو كان البوفيه يتضمن فندالاً.

لكن ما لفت انتباهي حقاً ربط السعدي معرضه بمناسبة اختيار منظمة الأغذية العالمية عام 2008 ليكون عاماً لل فندال أو البطاطا الحلوة (أو البطاطا عموماً). من أين اكتشف السعدي هذا؟ السعدي المقدود من صخر، المقيم في وادي مدحا، يعمل الآن وبالتزامن مع منظمة الأغذية العالمية. خيبة.. حتى السعدي وصل إلى منظمة الأغذية العالمية، كنت أعرف السعدي منذ أكثر من عقدين شخصياً، ولكني أعرفه فنياً أيضاً. كما وطوال هذه الفترة كنت أعرفه ومازلت، جبلياً أو حجرياً حتى في المدينة. ولم تكن مسافي مدينة على أحد كما كانت على السعدي، فالطلاب يسكنون في مساكن الطلاب في القاهرة وبغداد مثلاً، لكن السعدي لم يجد مسكناً داخلياً للطلاب إلا في مسافي في تعليمه الابتدائي، وعندما صعد درجات العلم لاحقاً (بالطبع لم يصعدها كما يحبذ صعود الجبال) انتقل إلى مسكن داخلي آخر لطلاب مدرسة العروبة في الشارقة. وكان ذلك في أواسط الثمانينات.

هنالك في مدرسة العروبة تعرفت إلى عبدالله، ودخل إلى الجامعة وتخرج كما دخل. وفي الجامعة اختار عبدالله تخصصاً مناقضاً ل الحجرية (أنا وعبدالله ومجمل سكان ما يسمى المنطقة الشرقية ننتمي لجبال الحجر، ويطلق علينا في اللجة: حيري بقلب الجيم إلى ياء)، فبماذا تخصص عبدالله؟ تخصص باللغة الانجليزية. وبناء على هذا التخصص كان عليه أن يعود إلى خورفكان، ولهذا شاءت الأقدار أن يكون الأستاذ عبدالله السعدي مدرساً للغة الانجليزية في المدارس الإعدادية ولسنوات وحتى وقت قريب، فيا لمشيئة الأقدار.

الحيري يرطن بالانجليزية، لكن لم أستغرب هذا عند السعدي والحيريون يرطنون اليوم بشتى اللغات. لقد تركوا حميرهم يأكلها الكوريون، وقاشعهم مدفون في الحواني، ونخيلهم تموت، ونزلوا من الجبال إلى الحياة المعاصرة. إن علاقة السعدي بالانجليزية تشير إلى ما هو أكثر من الرطين.

تعلم لغة أخرى، أي لغة أخرى، وخاصة الانجليزية في هذا العصر علامة على انفتاح على العالم، اندماج فيه، تقمص لعولمته، في حين يبدو السعدي وحيداً جداً، ومغلقاً ومنغلقاً منذ مساكن الطلاب الداخلية وحتى تكوينه لمسكنه الآن في قعر واد من وديان مدحا. غير هذا لقد سافر السعدي إلى اليابان ودرس الفن هناك لفترة كافية، ومنذ سنوات وهو يتبع أعماله التي تعرض في أماكن شتى من العالم: في البرازيل كما في ألمانيا، في أبوظبي كما في دكا. ويحضر ورشات فنية في عواصم لم ترد على بال أمه في يوم من الأيام. فكيف هذا؟ كيف يجمع السعدي بين التدلي في أحد وديان مدحا حيث يسكن والمشي باعتياد ما في أحد شوارع باريس؟ قبل هذا كيف يجمع السعدي بين انغلاق الحصاة التي تبدو عليها شخصيته وصمته وبين الانفتاح الذي يبديه بالضرورة أي عمل فني؟

هنا، عند هذا السؤال، تكمن إحدى الثيمات الرئيسية في تجربة السعدي الفنية. تجربة السعدي المتعددة أيضاً والعديدة. فلقد عرفت السعدي بدءاً ككاتب. وكان وهو شاب صغير يكتب قصصاً خرافية وركيكة. كتب أيضاً قصائد ركيكة، وكتب بعضاً من هذه القصائد بالانجليزية. لكن السعدي في الأساس كاتب يوميات، يكتب يومياته. وفي معرضه الأخير عن الفندال وضع عشرات الدفاتر التي دوّن فيها يومياته في صندوق زجاجي ورقمها. لكن قبل هذا وذاك السعدي جامع، يجمع كل شيء، خاصة العظام وجماجم الحيوانات والحشرات والعلب.. انك تحس بأن السعدي يجمع كل شيء، ونكاد نشعر نحن رفاقه بأن أي شيء يصل إلى السعدي لن يفلت، فإذا ما فلت من قبضة يديه (أي الجمع)، فإنه لن يفلت من أقلامه العديدة، وحتى لو فلت من تلك الأقلام فإنه لن يفلت عن عيونه.

رسم لوحات أقرب إلى السذاجة منها لوحة تصعد فيها أغنام كي ترتفع إلى قمة جبل، هذا ما أتذكره، وأذكر كذلك لوحات لبورتريهات نساء تظهر فيها ايروسية ما وعلى استحياء، لكن وبظني بدأ إنتاج السعدي الفني بالتحول منذ زيارته إلى اليابان.

هناك بدأ السعدي برسم مطويات كاسكتشات طولية للمناظر التي يراها. وعاد السعدي بمطوية أصدرها لاحقاً وبعلب ورقية وبلاستيكية من اليابان. مطوية اليابان هذه قادته لاحقاً لرسم مطويات طويلة جداً لمناظر جبال الحجر. ولعل من المهم الإشارة هنا إلى السعدي كان يحلم بالقيام برحلة مع جوقة من الحيوانات والطيور وعلى رأسها الحمار كي يكمل مشروع مطويته تلك عن الجبال.

ذكر هذا الحلم مهم جداً في تجربة السعدي الفنية، فلتعميق افتراضية الانغلاق/ الانفتاح التي جئنا على ذكرها عند حديثنا عن تعلمه الانجليزية، علينا واستطراداً أن نذكر، أو نتذكر، بأنه رحالة ويوثق رحلاته بالصور الفوتوغرافية، رحالة على الدراجة، وعاشق للسيارات القديمة، ومقتن للحيوانات والطيور (من مقتنياته طاووس مات ووهبه قبراً في مسكنه في وادي مدحا).

مطويات السعدي واحدة من أهم أعماله. لكن لديه عمل مهم كذلك، هو المسكن الذي بناه وهندسه في وادي مدحا ذاك. فمن الأحجار التي حوله والطين المجاور والغصون والجذوع القريبة أقام السعدي مسكنه أو جنته، وأقامها بفتنة وجمالية ودقة ما في بطن الوادي. ولقد أسر لي السعدي في يوم من الأيام بأن هذا العمل: (رسم أو بناء أو نحت المسكان الخاص) بناء على حلم أيضاً. فلقد عرف أحد الفنانين الأمريكيين الذي يهجر المدينة ويذهب بعيداً كي يبني عملاً فنياً ويعيش فيه. انه لأداء حي غير محدود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"