عصر البحث عن الرموز

02:28 صباحا
قراءة 5 دقائق
** القاهرة: مدحت صفوت

كثر خلال السنوات الأخيرة الحديث عن اختفاء الرمز الفكري في الراهن الثقافي العربي، أي انتفاء وجود الشخص الذي يمثل المرجعية النقدية والثقافية التي تضع ملامح المناخ الأدبي، الأمر الذي يتوجب معه فتح الموضوع، والنبش في حقيقة الحديث السابق أولًا، ومن ثمّ هل اختفى الرمز المرجعي، وما أسباب ذلك حال كانت الإجابة بنعم؟.
بداية، لا يخلو حديث عن أوضاع الثقافة العربية من الشكوى من غياب «المثقف القطب» الذي شهدته الثقافة العربية في العشرينات مثلًا، وما بعدها حتى مطلع السبعينات تقريباً، وهي ظاهرة غالباً ارتبطت بالثنائية، أي يتواجد مثقف قطب ومنافس له، ففي الشعر نجد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، أو شوقي وعباس ومحمود العقاد، ثمّ العقاد وطه حسين في الكتابات النقدية، أو حسين وأحمد أمين في الدراسات التاريخية، كذلك يوسف إدريس ونجيب محفوظ في القصة، محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم.
ومثّل كل اسم من الأسماء السابقة، مرجعاً أدبياً ومحل ثقة لدى القراء والمتابعين، ومن ثمّ عمدت الصحف والدوريات الثقافية إلى استقطاب هذه الأسماء، واعتمدت في مبيعاتها على بعض الأسماء السابقة، فيكفي أن تقول إن عدد اليوم من الصحيفة مثلًا يحوي مقالة للحكيم أو إدريس، ليتلقفها القراء في شغف.
لكن ومع التحولات السياسية والثقافية التي شهدتها مسيرة الإنسانية منذ نهاية الثمانينات من القرن العشرين، بدأ يتلاشى تدريجياً هذا النموذج من المثقفين، ربما تزامناً مع بداية ما يعرف سياسياً بعصر القطب الأوحد، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وسيادة نمط ثقافي وسياسي معين.

تحول تكتيكي

ومع وجاهة تأثير نهاية عصر الحرب الباردة في الأوضاع الثقافية عالمياً، يمكن الإشارة إلى تحول تكتيكي في إدارة المثقفين لملف فعاليتهم، وهو التحول من المثقف الفرد إلى الجماعات الثقافية، بخاصة في السبعينات مع جماعتي «أصوات» و«إضاءة» المصريتين، وعلى الرغم من أن عمر الجماعات الأدبية والثقافية في مصر يمتد لنحو قرن فإن تأثير الجماعات السبعينية هو الأكبر.
وجدير بالذكر أن جماعة «الفن والحرية» التي قادها أنور كامل والشاعر جورج حنين، في الأربعينات هي الأكثر تأثيراً في هذه الفترة، ثمّ جماعة «شعر» في الشام في الخمسينات والستينات، وبعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 تكونت جماعة «جاليري 68» التي أصدرت مجلة تحت نفس الاسم، وشارك في تحريرها كل من إدوار الخراط وسيد حجاب وغالب هلسا.
ورغم استمرار الجماعات الأدبية حتى بداية الألفية الجديدة، فإن تراجع دور الثقافة برمتها أثّر بالطبع في دور المثقف وصورته، ما أسفر في النهاية عن تهميش المثقف دون إرادته وبإرادته أيضاً، فالمثقفون، في أغلبهم وليس في عمومهم طبعاً، انقسموا إلى فريقين أولهما: نخبوي يعيش في برجه، بعيداً عن قضايا المجتمع، أو بتعبير أدق، القضايا ذات الصلة المباشرة بالإنسان العادي، مفضلًا البقاء في «الخانة الآمنة»، وعدم الاشتباك مع الواقع المعيش وتبريره أحياناً، أما الفريق الآخر فيتمثل في أولئك الذين لم يضبطوا المسافة بينهم وبين المؤسسات المتهالكة والمتجذرة في التسلط، وارتضوا أن يكونوا ترساً في ماكينات طحن الفقراء وقهرهم، ما يعني أن المثقف وضع فاصلة، سواء كبرى أو صغرى، بينه وبين الناس ومؤسساتهم، أدت في النهاية لانعزاله بعيداً، حتى أصبح تأثيره «كبقعة زيت على سطح المحيط» بتعبير زكي نجيب محمود.
كذلك تبدو الثقافة العربية حالياً خالية من اسم كمن استشهدنا به، زكي نجيب محمود، وهي نتيجة طبيعية للأسباب التي سبق أن أوردناها، بجانب عامل آخر وهو تأثير تنظيرات الرؤى الحداثية وما بعد الحداثية على الوعي الإنساني بصفة عامة والعربي على نحو خاص.
إذ نلاحظ أن الثقافات الإنسانية في عمومها تكاد تخلو من صورة المثقف التقليدي المرجعية، «شيخ العمود»، وتنحصر الأسماء اللامعة المتفردة كما كان الحال حتى السبعينات مثلًا، بعدما تغير دور المثقف الطليعي التنويري إلى المتسائل أكثر من كونه مقدم الإجابات.

الهوس بالشهرة

وسط انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والثورة في عالم الإنترنت، بدا السعي نحو تحقيق أكبر قدر من الشعبية والانتشار واضحاً وجلياً، ليس فقط من المشتغلين بالشأن الثقافي أو الأدبي، إنّما امتد حب الشهرة إلى أوساط وشرائح اجتماعية متباينة.
وترى بعض الدراسات السسيولوجية الحديثة، أن ثمة رغبة جامحة في تحقيق «السمعة الاجتماعية» أيْ أن يكون الفرد معروفاً ومحبوباً ومتابعاً، وتتزايد مُتخذةً منحنىً خطيراً. ومقارنةً بالعقود القليلة الماضية، أصبحت أهداف حياتنا اليوم تعكس رغبتنا في امتلاك المزيد من الممتلكات، والحصول على المزيد من القوة، والشعور بمكانتنا ونُفُوذِنا.
في الوقت نفسه، بدأ بعض المثقفين في الاستفادة من هذه التقنيات، فعملوا على تحويل ذواتهم إلى واجهات إعلامية، بحضورهم الدائم في القنوات التلفزيونية، قصد مناقشة المستجدات، فحسب دراسة للباحث الجزائري على أوعبيشة، تجدهم يجيبون عن الأسئلة في نفس الآن، وكأنهم مترجمون فوريون، يشتغلون تحت الطلب، وهم فعلاً كذلك؛ إذ إن أغلبهم، يفتحون محالّ للتجارة يدعونها «مراكز للبحث أو مراصد أو معاهد للتحليل السياسي والاستراتيجي» مهيّأة أساساً للظهور الإعلامي، ويُقدَّم أصحابها على أنهم خبراء ومعترف بهم دولياً وغيرها من الأوصاف، التي أضحت تلازم «المثقفين النجوم». في تواطؤ واضح لأجهزة الميديا التي تعمل على تحويلهم إلى مصادر مقدسة للحق واليقين وجودة الحكم.
في هذا الوضع الثقافي المشحون بمأسسة الأفكار والمتسم بالتيه الاستهلاكي والنجومية كمطلب حيوي للمثقف، يحق لنا أن نقرّ بأنّ التحالفات التدميرية استطاعت فعلاً أن تميّع صورة المثقف وأن تجعل منه مجرد خادم مطيع للجهل، وأمام هذا الوضع المأزوم والمشروخ نتساءل، كيف يمكن للمثقف العضوي إن كان له وجود فعلًا، أن يواجه «القوات الأيديولوجية» بكامل ترسانتها الإعلامية والمؤسساتية والمالية أيضاً؟
هنا نطرح سؤالًا، نراه الأدق، هل دخل المثقفون عصر التقنيات الحديثة؟ صحيح أن المثقف يغرد على «تويتر»، ويدون ب«فيس بوك»، ويستخدم «يوتيوب» في نشر محاضراته، ومواقع الكتب الإلكترونية في إتاحة مؤلفاته، لكننا نلاحظ أن أغلب القضايا التي تدور في نقاشات المثقفين هي ذاتها قضايا بداية «النهضة» العربية في منتصف القرن التاسع عشر، فلا يزال المثقف العربي، في جلّه وليس في مجموعه، يتحدث عن الثنائيات التي شغلت تفكير رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين، أبرزها الشرق والغرب، الأصالة والمعاصرة، وأغلب الكتابات يدخل لمعالجة هذه الثنائيات بالأدوات القديمة ذاتها، ويتكلم المفكرون دون أن نقع في التعميم عن التوفيق بين الوافد والمستقر في الثقافة، ما يعد سبباً من أسباب إخفاق النهضة العربية، والتوفيق ليس أداة منعزلة عن السياق، وإنما كان نتاجاً لطبيعة التناقضات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكانت نظرة التوفيق منسجمة مع طبيعة البرجوازية القائمة التي لم تنجز ثورة تقضي على الموروث وتؤسس بديلًا جديداً، بل كانت «صحوة» حاولت التوفيق بين الموروث والوافد، بمعنى أنها لم تكن ثورة على «القديم»، بل انتقت منه أسس صيغتها الجديدة، كما انتقت من الوافد ما يلائم هذا الموروث المنتقى، ما يعني أن المثقف لا يزال يلجأ إلى «النهضة» سابقة التعليب، والجاهزة، ظناً منه أنه بهذه الطريقة سيلحق بركب التقدم، وهو ما يجعل أجيال «مواقع التواصل» تنظر إليه بريبة، وتعتبره واحداً من أهل الكهف، فلغته أشبه بالعملة التي لم تعد تعرفها الأجيال، وأطروحاتهم كأنها نقوش «متحفية» تجاوزها الواقع كثيراً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"