فنادق طرابلس الشرق.. عمارة تؤرخ لمدينة زاهرة

اشتُهرت قديماً بـ«خانات» المسافرين
01:19 صباحا
قراءة 6 دقائق
«بيروت: نقولا طعمة
في الماضي شكلت مدينة طرابلس اللبنانية ممراً حيوياً بين الشرق والغرب، ونقطة جذب في الشمال اللبناني، فنشأت فيها المقار التي تؤمن السكن للعابرين والمسافرين، وقاصدي المدينة من تجار وسياح ومستكشفين ومن سحرهم الشرق، وبهذا وفرت «خانات» طرابلس خدمة السكن وتوفير المؤن للوافدين. ثم تطورت الخانات إلى الفنادق التي انتشرت في المدينة مع بدايات القرن الماضي، ليظل العديد من فنادقها وخاناتها شاهداً معمارياً على تاريخ حاضرة زاهرة.
في ذلك الزمان، حيث كانت الخانات هي البديل والمرادف للفنادق، استقر الوافدون بقوافلهم في هذه الخانات التي أمنت المأوى والخدمات للناس، ولدوابهم يوم لم تكن الناقلات الآلية قد اخترعت، وكانت وسيلة النقل المعتمدة هي الدواب كالخيل والبغال والحمير والجمال. وفي الجزء القديم من طرابلس، لا تزال تعرف الخانات القديمة، أمثال «خان الخياطين» و«خان العسكر» و«خان المصريين» و«خان الصابون»، وجميعها كانت تستخدم للمنامة والإيواء للراحلين والعابرين، بينما اتخذت أسماءها في العصر الحديث، بعد استخدامها في مهن مختلفة مورست فيها، دون أن يتوقف بعضها عن لعب دور الفندق الحديث.
ومع بدايات العصر الحديث، الذي يمكن أن يؤرخ له بالقرن التاسع عشر وبدايات العشرين، بدأت الفنادق في الانتشار في دول المشرق العربي، ولم تشذ طرابلس عن هذه القاعدة من تطور أمكنة المنامة والإيواء. وفي دراسة أعدها الباحث طلال منجد بعنوان «ساحة التل في طرابلس»، تحدث عن الفندق بأنه «مكان اجتماعي يعكس تطور ونمو، ونسيج العلاقات الاجتماعية»، ويذكر أنه «تزايــدت أعدادهـا مع الانتداب (الانتـداب الفرنسـي على سوريــا ولبنان) واتسعت أحجامها وتنوعت وظائفها».
مع تراجــع عصــر الخانـات، عرفـــــت الأماكـــــن التي تقــــــدم خدمة المنامة والإيواء والسكن بـ«البانسيـون»، الذي مثل البداية للفنــــدق الحديــــث، و«البوتيــــك أوتيل»، وهو أكبر وأرقى من «البانسيون»، وأصغر من الفندق. ولا يزال عدد من المتقدمين في السن من سكان المدينة، يذكرون أسماء بعض فنادق المدينة منذ بداية القرن العشرين، وحتى سبعينياته، منها فندق «زهرة حمص» في باب التبانة، حيث كان السوريون يقصدون المدينة من تلك البوابة. وفندق «العروبة» في سوق البازركان، مضيفين أن غالبية الفنادق الصغيرة «البانسيونات» تركزت على ساحة التل، وأكثرها توقف عن العمل، ولا يزال يعمل منها عدد قليل ربما يكون اثنين.

في الصيف.. في الشتاء

يربط منجد في الدراسة المشار إليها بين الاتجاه الذي نما في منطقة الشمال، التي تقع فيها مدينة طرابلس؛ حيث بدأت العائلات الجبلية تقصد المدينة طلباً للعلم إثر تزايد عدد المدارس الإرسالية في المدينة. وأن العائلات التي كانت تؤسس الفنادق رغبت في إطلاق أسماء ترتبط ببلداتها على هذه الفنادق؛ فكانت أسماء الفنادق مثل: «قاديشا» و«الكورة» و«حصرون». كما لعبت حركة الاصطياف الطرابلسية في هذه البلدات دوراً في تعزيز الروابط بين المدينة والريف، وتعزيز دور الفندق الذي صار «يلعب دور البانسيون أو مكان الإقامة الطويلة العائلية أو الفردية في الحالتين: الاصطياف (الطرابلسي) والإشتاء (الريفي).
بتزايد عدد الوفود الغربية، الأوروبية تحديداً، الزائرة إلى المدينة، افتتحت «أوتيلات» أكثر حداثة، أهمها أوتيل بلازا على ساحة التل. ويورد منجد خبراً عن افتتاحه نشر في إحدى الجرائد المحلية: «بعد ظهر الأحد، اجتمع في أوتيل بلازا نخبة من سيدات الفيحاء وسادتها، تلبية لدعوة، وقد دهشوا للعناية المبذولة التي جعلت الفندق من أفضل الفنادق في البلاد، وقام الجمهور إلى مائدة حوت أفخر أنواع المشروبات، والحلويات». ويذكر الخبر أن صاحب الدعوة، أنيس نوفل، أنفق أكثر من ألفي ليرة عثمانية ذهباً ثمناً للمفروشات. كان «بلازا أوتيل» يقع قرب أوتيل آخر اسمه «نيو رويال»، وآخر «إنتركونتيننتال»، الملاصق لمسرح «الانجا» المدمر، وفي مقابل هذه الفنادق كانت تقع «أوتيلات» (فنادق) «الحكيم» و«المنظر الجميل» والأهرام و«التل» و«حداد»، و«بالاس»، وكلها لا يزال يعمل حتى اليوم.
يقع«بالاس» وسط ساحة التل، مدخله باب ضيق، تحف به أعمدة رخام كعتبته، ومنه عبر سلم طويل جميع درجاته من الرخام، يوصل إلى الطبقة الأولى حيث صالون فسيح، وسقوف مرتفعة إلى أربعة أمتار، وتشكيلات هندسية من قناطر وزخارف رفيعة في السقف. يشير أحد الملمين بتاريخه إلى أن أحد الولاة العثمانيين وهو علي باشا المرعبي، الذي بناه للسكن أوائل القرن الماضي، وانتقل المبنى بين الورثة، وصولاً إلى استثماره كفندق منذ أواخر الأربعينيات. لا يزال هذا الفندق يعمل وإن كانت حركته بطيئة، وقد أثرت فيه كثيراً الأحداث في سوريا، حيث إن غالبية رواده كانوا من السوريين، وكانت العائلات الحلبية والحمصية والحموية تأتي إلى المدينة، وتقيم فيه لأسبوعين أو شهر، للسياحة والتبضع، وأحياناً للتفاوض على أعمال تجارية واستثمارية، بحسب أحد العارفين بشؤون الفندق.

أوتيلات الميناء

وفي الميناء، بدأ ظهور بعض الأوتيلات الصغيرة منذ سنوات، ومنها أوتيل في مبنى دير الآباء الفرنسيسكان، وآخر داخل الأسواق القديمة للميناء يعرف باسم «النسيم»، وثالث باسم فيا- مينا»، وهذه يغلب عليها طابع«البوتيك أوتيل»، أكثر تطوراً من «البانسيون»، والأصغر حجماً من الفندق، وتقوم هذه الأوتيلات في أبنية تراثية جرى تحديثها وترميمها، فصارت جاذبة للزبائن، خصوصاً للجو الحميم الذي تضفيه عليها التشكيلات التقليدية القريبة من بيوت السكنى.
فــادي الصيــداوي، مستثمــــر أوتيل «فيا مينا»، مارس العمل الفندقي في الفنادق الحديثة الكبرى في بيروت، يصف فندقه بـ«البوتيك أوتيل» الذي يتميز بـ«تقديم خدمة خاصة لكل زبون بناء على حاجاته، فيشعر كأنه في بيته، مع خدمات خاصة محببة، كنوع الصابون البلدي الشهير في المدينة».
ويقول عن فندقه: أقمنا الفندق في بيت قديم يزيد عمر بنائه عن مئة عام، تعاقبت عليه عدة عائلات من المدينة، ثم اشترى أحد الأشخاص المبنى وحوله إلى أوتيل، ثم باعه لآخر، وآل الأمر إلى إغلاقه. ومنذ عام ونصف العام، أردت أن أعود لأستثمر في مدينتي طرابلس، المدينة التراثية المهمة، والحاضرة المزدهرة سابقاً، والتي شهدت أوائل المطاعم الفخمة والحفلات ذات الطابع الحديث، ففكرت في هذا المبنى.
ويتذكر الصيداوي أن فندقاً آخر كان موجوداً في طرابلس في السبعينيات اسمه «المنتزه»، ويقول إنه كان أيضاً يُعد «بوتيك أوتيل». ويضيف أن النظرة إلى «الأوتيل» اختلفت اليوم عن السابق، والزبائن والسياح اختلفت متطلباتهم. مقارناً بين السائح الخليجي الذي يحتاج إلى أوتيل ليعيش فيه، ولا يعنيه الخارج كثيراً، بينما يهتم السائح الأجنبي بالسرير المريح والنظافة فقط، ولا يهمه إن كان هناك مرافق في الأوتيل من مطاعم وأماكن ترفيه؛ لأن من عادته أن يخرج ويتجول لاكتشاف الأمكنة التي يقصدها. ويشير الصيداوي إلى أن «البانسيونات» والفنادق التراثية الموجودة على ساحة التل مهمة، يجب الحفاظ عليها كما هي وترميمها، وليس بالضرورة تحويلها إلى فنادق فخمة قد لا تصلح للاستثمار المحلي. تراثيتها وجمالها كافيان لوجوب المحافظة عليها.
ورغم أن «الشغل ماشي» في الفندق، على حد قوله، لكن الصيداوي يأمل أن تعود طرابلس للعب دورها المعروف سابقاً، ويتابع: المشكلة التي نواجهها ليست في مستوى الإقبال على فندقنا، بل هي كيف نستقطب الناس إلى طرابلس، ومن هنا نحاول مع شارع المطاعم في محيط الفندق، في الحي المعروف بـ«مينو»، أن نبتكر أنشطة جاذبة للناس من الخارج. وإذا عاد الناس لارتياد المدينة، لن يبقى أحد بلا عمل.
ويلفت إلى أهمية المحافظة على طابع الحي التراثي السكني في الميناء، حيث يوجد الأوتيل الذي يستثمره. ويختم بالقول إن الحركة مقبولة كبداية، متوقعاً تحسنها مع تطور الأوضاع الاقتصادية، وإعادة صورة طرابلس كما كانت قبل الأحداث، خصوصاً لما تتمتع به المدينة من مؤهلات، وخصائص سياحية، وتراثية جميلة، وطابع الشرقي.
تنظيمات عثمانية

د. خالد تدمري، أحد العارفين بتاريخ وتراث مدينة طرابلس، يشير إلى نشوء الفنادق الحديثة بالتزامن مع حركة التنظيمات التي شهدتها الدولة العثمانية، التي نظمت أواسط المدن، ومراكز الولايات من النواحي الإدارية والتعليمية والصحية والتنظيم المدني. ويضيف أن طرابلس شهدت إنشاء وسط جديد لها، يضم مختلف الأبنية الإدارية الحديثة، وكان هذا الوسط هو ساحة التل، وحفز العثمانيون أثرياء المدينة على الاستثمار في هذه الساحة، تشجيعاً لحركة دائمة فيها على أمل أن تصبح مأهولة بالسكان.
وعن المباني التي نشأت فيها هذه الفنادق، يقول إنها المباني السكنية التي يقع عند مدخلها أبنية تجارية، ومصارف، ومقاهٍ، ومسرح الانجا، أول بيت للفنون في المدينة، وهي لتغطية الحاجات الحديثة للمدينة، فشهد هذا الوسط أول الفنادق الحديثة «البانسيون»، بعد أن كان الأمر يقتصر على الخانات التاريخية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"