فن السيرة الذاتية المتحركة

04:06 صباحا
قراءة 8 دقائق
** القاهرة: محمد زكي

كيف تم تجسيد صور الأدباء والمبدعين على شاشة السينما؟ في الغرب يعد ذلك ثيمة تكاد تكون رئيسية، لأن الأمر يرتبط بفن السيرة الذاتية، الذي يتراجع هنا في الشرق، ويزدهر هناك في الغرب، لذلك إذا ما توقفت أمام الأفلام السينمائية العربية (لا نتحدث عن الأعمال الدرامية التلفزيونية كالمسلسلات)، التي تعرض حياة موسيقي، أو أديب، أو فنان تشكيلي، فإنك ستعد على أصابع اليد الواحدة، في حين أن الغرب وجد في حياة المبدعين الكثير، مما يصلح للعرض على شاشة السينما.
تعرضت السينما العربية لصورة المثقف، بأشكال مختلفة، كان أغلبها يقدم صورة نمطية سلبية، ومع ذلك هناك أفلام قدمت صوراً إيجابية لأدباء ومبدعين، مثل «عصفور الشرق» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لتوفيق الحكيم، وقام ببطولته نور الشريف، ويكشف جانباً من حياة عميد المسرح العربي توفيق الحكيم في باريس، أيضاً ظهر بعض المثقفين على شريط السينما بشكل شرفي، مثل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي استعان به يوسف شاهين في فيلمه «الآخر»، كما ظهر أحمد فؤاد نجم، وإبراهيم عيسى، وحمدين صباحي، كل باسمه ودوره الحقيقي في الحياة.
هناك في الغرب تجارب شبيهة، لكن في أواخر السبعينات من القرن الفائت، وافق «رولان بارت» على أن يؤدي دور الروائي «وليام ثاكيري» في فيلم صديقه المخرج «أندريه تيشين» (الأخوات برونتي) بينما في عام 1965 رفض أن يجسد شخصيته الحقيقية، في فيلم لجودار، كما أنه اعتزم كتابة سيناريو فيلم، مبني على حياة «مارسيل بروست» على أن يخرجه تيشين، لكنه لم ينفذ المشروع.

استراحة العميد

في منزل مملوك لطه حسين، تم تصوير عدة مشاهد من فيلم «دعاء الكروان»، المنزل يقع بمنطقة تونة الجبل بالمنيا، وكان استراحة خاصة بعميد الأدب العربي طه حسين، بناه عالم الآثار د. سامي جبره، وأهداه إليه، وأقام فيه العميد من وقت لآخر، ولا يزال البيت قائماً حتى اللحظة الراهنة، وقد جاء صوت طه حسين بعذوبته وفخامته، لينهي آخر مشاهد الفيلم: «أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع، حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض؟».
وقدم الفنان محمود ياسين شخصية طه حسين، في فيلم «قاهر الظلام»، واعتمد في تجسيده للشخصية على الأداء الصوتي المميز، خاصة أنه التقى العميد قبل وفاته في عام 1973، واقتبس الفيلم الخطوط الرئيسية له، من كتاب «قاهر الظلام» للكاتب كمال الملاخ، وقام نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم بمراجعة السيناريو الذي كتبه رفيق الصبان، وفي لقاء تلفزيوني مع الفنان محمود ياسين، قال إن تجسيد شخصية العميد لم يكن سهلاً، لأن طه حسين روح كبيرة، وثرية، وغنية، فلم يكن من السهل أبداً أن أدخل في إهاب هذه الشخصية، فهي عملية شاقة، استدعت منى أن أجتهد كثيراً، وأعود إلى المصادر، والمراجع.
النجاح الذي حققه الفيلم شجع التلفزيون المصري، لإعادة تقديم حياة طه حسين، من خلال مسلسل تلفزيوني، وتم تكليف المخرج يحيى العلمي لتنفيذ المسلسل المأخوذ عن كتابه «الأيام»، وبعد اعتذار عدد من النجوم، قرر العلمي إسناد الدور لممثل يكون قادراً على تفهم طبيعة الشخصية، ثم يتمكن من تجسيدها بشكل جيد، بغض النظر عن نجوميته، وبعد بحث استقر على ترشيح الفنان أحمد زكي.

عصفور الشرق

يقوم الفنان نور الشريف بأداء دور وكيل النيابة الشاب، الذي يستعيد تجربة توفيق الحكيم في رواية «عصفور من الشرق»، ويتقمص شخصيته، حين يشعر بأن هناك خيطا ًمجهولاً يربط بين الماضي والحاضر، فأراد أن يعيش تجربة الحكيم في العشرينات، كما سجلها في كتابه «عصفور من الشرق»، لكن في الثمانينات، بعد أن تغيرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية، سافر إلى باريس، حيث كان يعالج الكاتب الكبير هناك، واستأذنه في استعارة قلبه، وعقله، وخبرته، وعثر على فتاة تشبه فتاة الحكيم، وتعمل في بيع تذاكر المسرح، واستشار الحكيم، في علاقته بها، فطلب منه الأخذ بنصيحة نابليون، وهي الهروب السريع من المرأة، ليأمن شرورها.
عاد وكيل النيابة مع الحكيم إلى القاهرة، بعد انتهاء فترة العلاج، ولأنه لا يزال متأثراً بالحكيم، فقد سعى للعمل في المركز الذي كان يخدم فيه الحكيم، وقت أن كان وكيلاً للنيابة في
العشرينات، وكلما واجه أزمة عاد إلى الحكيم، يستشيره في ما يجب أن يفعله، وفكر المخرج الراحل يوسف فرنسيس في تجربة سينمائية مغايرة، وأمكنه هو ونور الشريف إقناع الحكيم بالتمثيل، كأحد أبطال العمل، لكن بعد أن تقدم به العمر، فهناك شاب يتمثل تجربته الشخصية والعاطفية، وفي الفيلم يقوم الحكيم بتجسيد شخصيته الحقيقية، ويستقبل في الفندق بباريس شبابه في ملامح نور الشريف، الذي يعود بين حين وآخر إلى توفيق الحكيم، بعد كل موقف يمر به، ليسأله عما فعله قديماً.

صورة ملائكية

في حدث لا يتكرر كثيراً، تم إنتاج فيلم «الفاجومي»، حول حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم، ويتطرق الفيلم إلى أهم المراحل التاريخية والثورية في حياة الشاعر، وعمليات اعتقاله وسجنه، وتعرض الأحداث لعلاقته برفيق دربه الشيخ إمام عيسى، وأهم القصائد التي كتبها ولحّنها الشيخ إمام، وتغنى بها، لتنتهي الأحداث بالثورة التي تفجرت في يناير/ كانون الثاني 2011.
ووجه نجم نقداً شديداً للفيلم، وقال في حوار أجراه معه طوني خليفة: «إن الفيلم ركز على بعض الأشياء من دون غيرها، وأهمل نقاطاً مهمة في حياتي، ولم يوضح أنني قمت بالتأثير في تاريخ مصر»، هكذا قال الرجل، ومن ناحية أخرى، فإن إحدى زوجاته وصفت الفيلم بأنه «يسيء للقيم الفنية بشكل عام».
واستعان مخرج الفيلم بأسماء مستعارة، وعن لجوئه إلى ذلك قال: «حتى لا ندخل في مشكلات، تجعلنا نخرج عن الإطار الذي رسمناه للعمل، ولأنني أريد أن أوجه رسالة محددة للجمهور، واستعرض تاريخ مصر، بإلقاء الضوء على اثنين، عاشا فترة زمنية صعبة، وأثّرا في وجدان المصريين.
وعلى نحو آخر، فإن الناقد طارق الشناوي وجه انتقادات حادة لصناع الفيلم، وقال إن الفيلم أظهر «نجم» بصورة ملائكية، ما أضر بالعمل الفني.

اقتباس

تحدث الروائيون عن معاناتهم مع الكتابة، ونقلت السينما صوراً من تلك المعاناة، من هذه الأفلام الفيلم الأمريكي «البداية في المساء»، الذي تم إنتاجه عام 2007 وبطله روائي من نيويورك، عزل نفسه عن الناس، بدعوى التفرغ لكتابة رواية جديدة، على طريقة هنري ميللر، لكن دخول باحثة شابة إلى حياته، يكشف أسباب هذه العزلة، التي لم تكن إلا نتيجة صدمة نفسية، تعرض لها، ولاحظت الباحثة، عبر حوارات مع الروائي، أن شخصيات رواياته الأولى كانت جريئة، في اختيار مصيرها، بينما شخصياته الأخيرة أصبحت أقل جرأة، في انعكاس مباشر للحالة النفسية للكاتب أثناء كتابة الرواية.
معاناة المبدع في السينما ظهرت كذلك في أفلام أخرى، مثل فيلم «الساعات»، الذي عمل على هاجس الحرية والإبداع عند الروائية البريطانية فيرجينيا وولف، ويشاركه في ذلك فيلم «اقتباس» الذي ظهر عام 2002 وأدى فيه «نيكولاس كيدج» دور كاتب سيناريو، يعيش معاناة رهيبة، أثناء كتابته لفيلم عن زهرة الأوركيد، حيث لا يجد المفتاح الذي يدخل من خلاله إلى عالم جديد يريد ابتكاره.
ويأتي فيلم «أغرب من الخيال» عام 2006 ليقدم صراع كاتبة روائية مع شخصيات روايتها، وأدت دور البطولة فيه البريطانية «إيما ثومبسون»، التي تبدأ بتأليف رواية، لكنها تواجه معاناة مع بطل روايتها الخيالي، الذي يرفض الحياة المرسومة له، ويسعى للتمرد عليها، ليتحول الصراع إلى مواجهة مباشرة بين الكاتبة، وبين عالمها الروائي المتخيل.
وهناك فيلم «منتصف الليل في باريس» للمخرج «وودي آلن»، والشخصية الرئيسية فيه لكاتب أمريكي، يقضي إجازته في باريس، مع الفتاة التي سيتزوجها، وهو كاتب سيناريو ناجح في بلده، لكنه قرر الشروع في كتابة رواية، غير أن هذه النقلة تتسبب بضغوط كثيرة عليه، فهو من جهة يعاني للعثور على نهاية جيدة لروايته الأولى، ومن جهة أخرى تضغط خطيبته عليه، ليعود إلى كتابة السيناريوهات، ويترك الرواية.
وتتلاشى الضغوط تدريجياً، مع عثوره على مجموعة من الأصدقاء الذين يساعدونه في الانتهاء من روايته، والأهم أنهم يساعدونه على اكتشاف جمال الحياة في باريس، خاصة في ساعات ما بعد منتصف الليل، وقد اختار «وودي آلن» مجموعة من عباقرة الفن، وضعهم في طريق بطل الفيلم، ليقلبوا حياته رأساً على عقب، فمع دقات منتصف ليل باريس، يجد سيارة عتيقة، تقف له في الطريق، لتأخذه إلى عالم آخر، يستقبله فيه عباقرة الأدب: الزوجان سكوت وزيلدا فيتزجيرالد، ليعرّفاه إلى عبقري آخر هو هيمنجواي، الذي يوافق على أن يقرأ روايته، ويبدي رأيه فيها، ويلتقي البطل بابلو بيكاسو، وسلفادور دالي، والمخرج الإسباني لويس بونويل، ليصل إلى الحقيقة، التي كان يتهرب منها، بضرورة انسحابه من الحياة المحبطة، التي يعيشها، ويقرر أن يبقى في باريس، ويعيش الحياة التي يحلم بها.


تناقضات إنسانية


كان نجوم الفن التشكيلي موضوعاً سينمائياً بامتياز، فقدمت الشاشة قصص جويا، ورامبرانت، ومايكل أنجلو، وجوجان، وموديلياني، وغيرهم، وقدمت السينما الأمريكية فيلماً عن الفنانة التشكيلية المكسيكية فريدا كالو، بعنوان «فريدا» بطولة سلمى حايك، ولم يشأ صناع الفيلم أن يقدموا سيرة حياتية لفريدا، بقدر ما أرادوا أن يقدموا فيلماً سياسياً، يدين الشيوعيين، ويصف المنتمين إلى الشيوعية، على أنهم يتصرفون بكل التناقضات الإنسانية. ولم يتوقف الفيلم عند مرحلة ما بعد وفاة الفنانة، حين تحول البيت الذي عاشت ودفنت فيه، إلى مزار فني، وتنامت شهرتها عالمياً.
وتظل تجربة الفنان التشكيلي «جويا»، مثيرة للجدل الفكري، حتى أن مخرجين من ثقافات متعددة، نظروا إلى سيرته بإعجاب، وراحوا يستلهمون حياته من جوانب مختلفة، وهناك عدة أفلام تم إنتاجها على فترات متباعدة منها: «المايا العارية - جويا - جويا في بوردو - أشباح جويا»، وأشهر هذه الأفلام ما قامت ببطولته «آفا جاردنر»، ويتناول العلاقة التي ربطت جويا بامرأة، تعرف باسم «الدوقة»، في فترة من أخصب فترات حياته.
وتوقف الفيلم الأمريكي عند مرحلة شباب جويا، وما حدث في الواقع للفنان، وهو يرسم اثنتين من أشهر لوحاته، ويبقى أن هذا الفيلم هو الأكثر مشاهدة، وفي ألمانيا الشرقية تغيرت وجهة النظر فيه، من جويا، الذي يرسم العاريات، إلى جويا الذي وصل إلى سن الخمسين، وصار يرسم الناس والشعب، والتغيرات التي حدثت في إسبانيا، وفي أحد هذه الأفلام يبدو جويا في خلفية قصة عن محاكم التفتيش، تحول إلى شخصية هامشية، في مقابل التركيز على شخصيات متخيلة، صار مجرد رجل يساعد امرأة في الهروب، من دون أن نتعرف إلى مسيرته كفنان.


انتباه مبكر


انتبهت السينما في الغرب إلى شخصية الفنان التشكيلي «فان جوخ»، فقدمت عنه أفلاماً عدة، منها «شهوة الحياة - فإن جوخ - حياة وموت فان جوخ»، ويعد «شهوة الحياة» أهم هذه الأفلام، ليس فقط لأن «أنتوني كوين»، حصل على الأوسكار، أحسن ممثل مساعد، أو لأن كيرك دوجلاس جسد دور فان جوخ بعبقرية، لكن لأن الفيلم مأخوذ عن رواية صاغها كاتب أمريكي هو «إرفنج ستون» عام 1934.
وبمشاهدة النهايات في تلك الأفلام نلاحظ أن نهاياتها متباينة، ما يعني أن كل مخرج له رؤيته الخاصة، ففي فيلم «شهوة الحياة» بدا جوخ مملوءاً بالحيوية، ليس فيه ما يكشف عن كآبة، فهو يترك لوحته غير المكتملة، وسط حقول القمح، ثم يخرج مسدسه، ويطلق الرصاص على بطنه، وفي فيلم آخر نرى جوخ، وهو يطلق الرصاص على رأسه، وسط الحقول، أما النهاية الغريبة فهي أن الفنان أطلق الرصاص على رأسه داخل حجرته.
ويعتبر فيلم «أماديوس»، من أهم التجارب التي قام بها صانع أفلام في تاريخ هوليوود، الذي يقدم حياة «موتسارت» الفوضوي، وهو بعيد كل البعد عن الأفلام التعليمية، التي اعتدنا مشاهدتها حول حياة الموسيقيين العظماء، فقد دخل الفيلم بشكل مغاير، فلم يظهر شخصية «موتسارت» بذلك العبقري، لكنه أظهره شخصاً غير ناضج، شبيه بالأطفال، ولم يستخدم الفيلم موسيقى تصويرية، لكن تم شحنه بروائع «موتسارت» الموسيقية.
وفي بداية الفيلم، نسمع صراخ رجل محبوس في غرفته: «موتسارت، سامح قاتلك، أعترف بأنني قتلتك، موتسارت، سامح قاتلك»، وبعد اقتحام الغرفة نكتشف أن الرجل هو الموسيقار «ساليري»، ملحن القصر في «فيينا»، وكان فخوراً بما وصل إليه من مجد، إلى أن دخل في حياته الموسيقي الشاب موتسارت، بطبيعة طفولية وضحكة مستهترة، كان في سن الخامسة يعزف أمام الملوك، وفي سن السابعة عشرة يؤلف الموسيقى للطبقة الاجتماعية الراقية، لقد منح حياته كلها للموسيقى، وفي النهاية استقر به المطاف في البلاط النمساوي، وصار موسيقار ملك النمسا، إلى أن مات على نحو دراماتيكي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"