في قبضة الدمى

02:33 صباحا
قراءة 7 دقائق
محمد إسماعيل زاهر

(1)

يتنبأ جوناثان جوتشل في كتابه «الحيوان الحكّاء»، 2017، بأن تتحول الثقافة في معظم إنتاجها الأدبي والفني: المسرح والتشكيل والرواية..الخ في المستقبل القريب إلى اللعب، وهي نتيجة يدعمها بالكثير من الشواهد التي تنتمي إلى عالم ما بعد الحداثة. حيث سنكون أمام رواية إلكترونية تفاعلية يحرك أحداثها المؤلف والأبطال والقراء/‏ اللاعبون، وهكذا الحال في العديد من أوجه النشاط الثقافي الأخرى. ولكن إذا عدنا إلى أحد الحداثيين المعنيين باللعب، يوهان كوتسينجا، في كتابه «ديناميكية اللعب»، 1938، فسنجده يقول من فضاء فكري آخر ومختلف: «الثقافة بأسرها، بل إن حركة الحضارة نفسها، هي نوع من اللعب».
تعرض كوتسينجا لهجوم عنيف على كتابه هذا، وعندما كان يلقي محاضراته حول الموضوع نفسه كان يخفف من رؤيته الشاملة لفكرة اللعب، تلك الرؤية التي يفصلها في ذلك الكتاب، فالقانون والحرب والمعرفة والشعر والفلسفة والفنون..الخ، ما هي إلا انعكاسات للعب أنتجها الإنسان في مساره الحضاري الطويل. أما جوتشل فأطروحته قوية ومدعومة بحقبة يمارس فيها جميع البشر اللعب بصورة يومية، إن لم يكن في الواقع الملموس فمن خلال نظيره الافتراضي.
ما بين كوتسينجا التنويري وجوتشل ما بعد الحداثي، ما بين من نظر إلى راهن البشر فرأى أنه يفضي إلى مستقبل لن يعرف إلا اللعب، ومن وسم تاريخهم بأكمله باللعب، ما بين الماضي والمستقبل يقع ذلك المدار الذي لا نهاية لحدوده والمسمى ب«اللعب»، حيث نعثر في مفاصله كافة، على نقاط تماس قوية مع علم الاجتماع، والانثروبولوجيا، ونظريات الجندر، والاقتصاد، والسياسة..الخ. لم يعد اللعب ذلك المصطلح الذي يحيل الذهن إلى الهزل أو الترفيه أو إلى أنواع الرياضات المختلفة أو حتى فكرة التنافس أو تفريغ شحنة العنف أو الطاقة أو الغضب وفق ما تذهب معظم التحليلات الكلاسيكية عندما تتحدث عن اللعب الذي يبدو أنه بات أوسع من كل ذلك.

(2)

لنبدأ من الدمى، تلك الألعاب التجسيمية التي تم توظيفها تاريخياً في مختلف الفنون، لقد انطلقت مع الإنسان البدائي والذي جسد من خلالها رؤيته لقوى الطبيعة المختلفة، كان يحترمها ويقدسها، ولم يلبث أن تمرد عليها مع الأديان وتحولت رويداً رويداً لتكون أدوات لتسلية الأطفال، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل هي تؤشر إلى رمزية أخرى في اللاوعي، فالطفل الذكر منذ بدايات الإنسان الأولى وحتى الآن، لم يكن يلهو إلا بدمية السيف أو المسدس..الخ، أما الطفلة الأنثى فتلعب بدمية على شكل فتاة صغيرة أو عروسة، هنا كانت نظريات التربية ترجع السبب في تلك الظاهرة إلى خيار الأسرة، ولكن علماء الانثروبولوجيا كانت لهم وجهة نظر مختلفة، حيث لاحظوا في ثقافات بدائية لا يهتم فيها الأهل بنوعية الدمى التي يلعب بها أطفالهم، أن الولد يختار طواعية دمية ترمز للعنف، أما البنت فتلعب بدمى تحيل إلى رعاية الآخرين، وكأن الدمى تتحكم في الأدوار المرسومة للجنسين منذ آلاف السنين، فالطفل الذكر يُربَّى للحماية أو للعمل في الخارج، والطفلة الأنثى إما جامعة ثمار أو أم مسؤولة عن الأولاد والمنزل، ولم يعثر علماء الإناسة على أي ثقافة يتبادل فيها الرجال والنساء تلك الأدوار، وبالتالي فإن نوعية الدمى تشكل الخلفية الجنينية للأدوار الاجتماعية المستقبلية.
خرجت الدمى من رحم الأسطورة، ولبّت حاجات نفسية للطفل، ذكر وأنثى، وهيمنت على خيال صغير يتفتح على العالم. لقد كانت الدمى دائماً أكثر من لعبة.
هناك ثقافات بأكملها احتفت بالدمى، ولكن أشهر دمية والتي ترجمت حكاياتها إلى 240 لغة، هي دمية بينوكيو للكاتب الإيطالي كارلو كلودي، يبدو الهدف من مغامراتها في الكارتون وحتى الأفلام السينمائية، الترفيه المبطن برسائل أخلاقية، ولكن تلك الدمية مرت بتحولات، تبدأ من قطعة خشب عثر عليها المعلم «كرزة» ذات يوم فاعتزم حرقها للتدفئة ولكنه وجدها تبكي وتضحك كالأطفال فأصيب بهلع، فتخلص منها ومنحها لصديقه جيبتو، وتنتهي باستيقاظ الدمية من الحلم لتجد نفسها وقد باتت طفلاً جميلاً، ومروراً بمغامراتها مع الساحرات والمصباح السحري رفقة صرصار الليل الناطق والأم الرؤوم ورفاق السوء، ولكن أول ما يفعله بينوكيو بعد أن يصنعه جيبتو، الذي يناديه بأبي، هو الهرب لكي ينخرط في مواقف يبني من خلالها كلودي شخصية الدمية ببطء.
بينوكيو أكثر من دمية، هو تلك اللعبة المصنوعة من خشب الصنوبر، ذلك الكائن النائم الذي يمر بعوالم ويشاهد كائنات تصيبه بالدهشة، يتمرد على أبيه، ليختبر الخير والشر، ويشعر بعد نضجه بامتنان تجاه الأب في النهاية. يقذف كلودي بقارئه إلى غابة من الأسئلة، يتقاطع فيها الواقع والحلم، والطفل والدمية، والإنسان في رحلته لاكتشاف ذاته.
في «حكايات الأخوين جريم» يتكثف السؤال الذي تطرحه علينا الدمية أكثر، ففي قصة «عقلة الإصبع» نشاهد زوجين لا ينجبان، وفي إحدى الأمسيات بجوار نار المدفأة تتمنى المرأة أن تنجب طفلاً ولو كان في حجم إصبع الكف، وبالفعل تضع بعد سبعة أشهر صغيراً بالمواصفات نفسها، يعكف الأبوان على تغذيته بكافة أنواع الطعام حتى ينمو، ولكنهما يكتشفان أن هذا هو حجمه الذي سيلازمه طوال عمره، يشعر الأب الفلّاح باليأس فقد كان يحلم بصبي يساعده في الحقل، ولكن «عقلة الإصبع» يفاجئه، حيث يقود عربته الفارغة من خلال جلوسه في أذن الحصان وتوجيهه نحو الحقل، ولا تلبث تلك الدمية أن تمر بدورها برحلة تحولات تختبر من خلالها الواقع اللامتناهي في الكبر، يمارس عقلة الإصبع النصب ويحتال على اللصوص ويأخذ منهم الذهب الذي سرقوه، وينقذ أحد الأخيار من السرقة، ويعيش في بطن بقرة يلتهمها ذئب، حتى يعود إلى منزله في النهاية.
يعيش بينوكيو بين متناقضات تتداخل حتى تتشابك، وتتحول إلى متاهة نعجز عن إدراك أبعادها، أما عقلة الإصبع الذي لا يحلم، المتسامح مع قدره والمدرك لحدوده فيودّ لو يقول لنا: نحن أصغر من أن نفهم العالم حتى لو حاولنا ذلك.

(3)

لا حديث الآن للكثير من وسائل الإعلام إلاّ عن الألعاب الإلكترونية التي تدفع ببعض المراهقين إلى الانتحار. ولكن ماذا عن نص دموي في «حكايات الأخوين جريم»، نشر في الطبعة الأولى من الكتاب، أورده جوتشل في «الحيوان الحكّاء»، ثم حُذف من الطبعات اللاحقة للحكايات، بعنوان: «كيف لعب الأطفال لعبة الجزار مع بعضهم البعض»، وهو قصة عن رجل ذبح خنزيراً في الصباح أمام أطفاله، وحين لعبوا بعد الظهر، وفي غفلة من الأبوين، قال صبي لأخيه ما رأيك لو نلعب لعبة الجزار مع الخنزير، وأخذ نصلاً حاداً وغرسه في عنق أخيه، وسمعت الأم التي كانت تحمم أصغر أبنائها صراخ الطفل القتيل، فأسرعت لتعرف ما حدث، وفي ثورة غضبها انتزعت النصل من عنق القتيل لتغرزه في صدر القاتل، وعندما عادت إلى طفلها في الحمام وجدته قد غرق في المياه ولم تلبث أن أصيبت بحالة من الجنون فشنقت نفسها، هنا النص معنون ب«لعبة» ومكتوب في الأصل للأطفال، في ذروة حداثة الغرب خلال القرن التاسع عشر، وبقلم يعقوب جريم وفيلهلم جريم واللذين تركا بخلاف حكايتهما الشهيرة، أضخم كتاب في قواعد اللغة الألمانية، «والموسوعة الألمانية الكبيرة»، والتي تقع في 32 مجلداً.
وماذا عن لعبة المبارزة؟، بالسيف أو المسدس، أو لعبة «الروليت الروسي» والتي كان مارسها الروائي جراهام جرين، والألعاب فائقة العنف..الخ، حيث يبدو أن اللعب كفضاء حكائي متخيل، أو كرياضة واقعية ملموسة يرتبط بدرجة ما بالعنف.

(4)

اللعبة تنمو لتتسلل إلى مفاصل حياتنا كلها، فاللعب لا يقتصر على الطفولة أو على الدمى وحسب، ولكن لكل مرحلة ألعابها الخاصة بها، وأيضاً لكل فئة اجتماعية ولكل ثقافة، وكذلك لكل صفة لعبة ما. هناك ألعاب القوة، وألعاب الذكاء، وألعاب المشاعر، وألعاب الكتابة، وألعاب الألغاز والأحجيات، ألعاب فردية وثنائية وجماعية، ألعاب شعبية وأرستقراطية، ألعاب في أماكن مفتوحة وأخرى في أماكن مغلقة، ألعاب تنمي شخصيتنا وتجعلنا أكثر انفتاحاً على الآخرين، وألعاب تصيبنا بالتوحد والعزلة والانطوائية، ألعاب ترسخ السلام، وأخرى تؤدي إلى القتل.
اللعبة تهيمن على سلوكياتنا، عندما نقود سيارتنا ببراعة في وسط الزحام، وعندما نعقد صفقة نشعر أننا ربحنا فيها، وعندما نتجول للترفيه أو نذهب للتسوق أو نختار مرشحاً سياسياً في انتخابات ما، أو نفكر في من نحب، وعندما نتجادل حول الأفكار، ونتعارك حول الأدب وحتى عندما نجلس لنكتب..الخ، في كل هذه الأفعال وغيرها الآلاف مما يمر بنا يومياً، ظل من لعب.
تتغول اللعبة لتحتل أركان اللغة بأكملها من خلال مجازات واستعارات شديدة الدلالة..لعبة السياسة ..لعبة الحرب..لعبة الحب..لعبة الاقتصاد..حتى أصبحنا نقول في لحظات بوح أبعد ما تكون عن الهزل، إننا انخرطنا في «لعبة الحياة»، أو إن حياتنا مجرد لعبة.
اللعب أعمق من الدمى ومن كل أنواع الرياضات ومن ألعاب إلكترونية يغرق فيها الكثيرون على مدار الساعة.

(5)

كتب بول فاليري يوماً «لا يوجد لعب من دون قواعد، وعندما يتم تجاوز قواعد اللعب أو تجاهلها، ينهار عالم اللعب بأكمله، وعندما يطلق الحكم صفارة النهاية ينفك السحر، وترجع الحياة إلى سيرتها الأولى، ويخرج اللاعبون من عالم اللعب المؤقت إلى عالم الحقيقة».
ماذا لو مارسنا اللعب في النص السابق، وهو واقعي ملموس ينطبق على أية لعبة، واستبدلنا كلمة لعب بكلمة حياة. ساعتها لن نستطيع الفرار من سؤال: هل مكرت بنا الحياة أم خدعتنا اللعبة؟، ومن منهما الحقيقي ومن الزائف؟، وهل الحياة هي الأصل أم اللعبة؟.

الوجه الآخر للشعر

بعد أن يحلل يوهان كوتسينجا في كتاب «ديناميكية اللعب» الكثير من أشكال الشعر وأغراضه وفي الكثير من الحضارات، يقول: «إن عملية نظم الشعر وقرض القوافي في الحقيقة ليست سوى وظيفة من وظائف اللعب، إذ ينبع الشعر من ذات منطقة اللعب في العقل البشري»، وهو ما يؤكده من خلال وظيفة الشعر الجمالية «إن الشعر كلعبة اجتماعية ذات طابع جمالي شائعة في كل مكان وبقوالب وأشكال بالغة التنوع».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"