قصائد عصية على اللمس

05:19 صباحا
قراءة 5 دقائق
** الشارقة: عثمان حسن


«غنيت لك إلى طلوع الروح / غنيتك إلى طلوع الروح / ورسمتك في الحقيقة شجرة وفي الخيال / شجرة / وكنت أسقيك كل يوم بماء السماء / والأرض / وعندما طالت الغصون وطوق البستان / بيتي / بحثت عنك / وبحثت عني / ولسوف أمضي في البحث إلى منتهاه / لكن من ذا يخلصني / مما يعلق بي من أصداف وقواقع / وجزر؟ غنيت لك إلى طلوع الروح / وسوف أغني لك إلى طلوع الجسد».
بهذه الشعرية العالية، كان يكتب حبيب الصايغ، يشعل القصيدة إلى منتهاها، فكرةً ودلالةً، وعمقاً فلسفياً، يقارب معنى الوجود، يرتفع بالقصيدة إلى أقصى حالات الشعور والوجد، ينميها بملكة الخيال، ويقطر كلماتها لتصير خفيفة، لكي تطير.
المقطع الشعري السابق من ديوان الصايغ «كسر في الوزن» وصدر عن دار الانتشار العربي في بيروت في عام 2011، وهو يتألف من ستة أجزاء وأربع وأربعين قصيدة، راوحت بين التفعيلة والنثر، وأيضاً الشكل العمودي.. وترتيب هذا الديون هو الثامن بعد سلسلة المجموعات الشعرية التي أصدرها الصايغ، وهي: هنا بار بني عبس، التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه، قصائد إلى بيروت، ميارى، الملامح، قصائد على بحر البحر، غد، رسم بياني لأسراب الزرافات.

عتبة العنوان

كان الصايغ في معظم كتاباته الشعرية، يميل إلى التجديد، فلا يكاد القارئ والوسط الثقافي بشكل عام، يقرأ قصيدة جديدة له، إلا وتفاجئه تلك القصيدة بتوهج نادر شكلاً ومضموناً، بنيةً وإيقاعاً، ونصاً قابلاً للقراءة النقدية في مستويات عدة، هذه المهارة الاستثنائية في كتابة القصيدة عند الصايغ، لم تأتِ من فراغ، فهو كان يعيش لحظة الكتابة على نحو شعري بامتياز، كان قادراً من حيث المبدأ على تفكيك نصه، لغةً وإيحاءً ودلالةً.
هل نتحدث عن البنية الشعرية عند الصايغ؟ في حقيقة الأمر كان الصايغ مشغولاً بنصه، لا يتركه إلا وقد استنفد أقصى ما لديه من الشعرية.
وعودة إلى دلالة العنوان عند الصايغ، فلا حاجة لنا للتأكيد على ما سبق واجترحه الناقد الفرنسي «جيرار جينيت» أستاذ المدرسة الحديثة في النقد، خاصة في كتابه «عتبات» الذي بقياسه على أشعار الصايغ نجد أن القصيدة عنده كانت مدروسة بعناية، وليست اعتباطية، حتى في نصوصه المفتوحة على أكثر من شكل شعري، نجد أن نصوصه كما هو حال قصائده تكسر هيمنة الحرفي، لتدخل في نص أو قصيدة موازية، القصيدة هنا، تصبح قصيدة تلميحية، وهذه من حرفية اختيار العنوان عند الصايغ، حيث العنوان كما يلمح جينيت من أهم العناصر المكونة للنص الأدبي على إطلاقه، سواء كان روايةً أو نصاً مفتوحاً، وخاصة إذا كان نصاً شعرياً قابلاً لقراءات بمستويات ثقافية عدة.
هنا، يشتغل النص الشعري عند الصايغ بوصفه سيمياء مفتوحة على الماوراء، ومفتوحة على التأمل وذلك الغموض الشفيف الذي يكاد يطغى على كل ما كتب الصايغ من قصائد وما أنجز من دواوين، تعتبر فاصلة مهمة في رصيد الشعرية الخليجية والعربية.
لنتأمل قصيدة من «كسر في الوزن» بعنوان «أظنك مرسومة» ويقول فيها:
أظنك مرسومة في صفاء الكمنجات / حين أراك / وفي كل مرة / أراك أظنك مرسومة / في الجديد المطرز بالحزن / حزن العراق / القديم / وقد شكلته الثكالى /.. كأن الحقيقة حرف عصي على اللمس / والميم عين الطبيعة / أنت مغامرتي فاسكنيني / وإن كنت أبعد مما يكون / فإنك أقرب مما يحس.
ولنتأمل طبيعة المفردة، في هذا النص الشعري، كما نتأمل الصياغة في بعدها الدلالي، هذه الصياغة التي تلائم لغة أخرى غير متوقعة عند القارئ العادي، كقوله في النص السابق: كأن الحقيقة حرف عصي على اللمس / والميم عين الطبيعة.
عنوان النص، كعتبة أو مفتاح لفهم شعرية الصايغ، هو بكل تأكيد فضاء مفتوح على ثقافة ومعرفة معكوسة في فضاء نصه الشعري، حيث «كسر في الوزن» نموذجاً يجسد هذه المعرفة الكلية.
ما يلفت الانتباه في ديوان «كسر في الوزن» هو العنوان.. فما الذي قصده الشاعر حبيب الصايغ بهذا العنوان.
يقول مفيد نجم في قراءته ل «كسر في الوزن»: «تدل القراءة الأولية لعناوين أعمال الشاعر حبيب الصايغ التي صدرت حتى الآن على أن إنشاء العنوان واستراتيجية بنائه قد شهدا تحولاً، يجعلنا نميز بين مرحلتين اثنتين في هذه الاستراتيجية على مستوى بنية العنوان اللغوية، المرحلة الأولى اتسم فيها العنوان بطوله الواضح، في حين عكست المرحلة الثانية ميلاً شديداً إلى التكثيف والاقتصاد في اللغة».

فضاء التكثيف

من الواضح أن النص الذي يكتبه الصايغ، هو نص مراوغ، ذلك أن بنيته كما أشرنا سابقاً مفتوحة على قدر هائل من التأمل، وهو نص فلسفي، ويمكن اعتباره أيضاً «تجريبياً»؛ حيث التجريب هنا، ينزاح عن المألوف، ليشكل خريطته الشعرية -إن جاز التعبير- بعيداً عما هو مألوف أوعادي، وهذا يضعنا، أو يضع القارئ في مواجهة مع احتمالات مفتوحة على عدة عناصر جمالية وفكرية، ومن المؤكد أن الصايغ حين كان يكتب قصيدته، كان يميل إلى تنقيتها، أو إعادة كتابتها، ليخلصها من تلك الاستطرادات التي يمكن أن تشكل عبئاً على النص، فتثقله بما هو ليس شعرياً، أو تأخذه إلى رتابة وحدود المعنى الواحد، أو المقترح الواحد، أو المعنى المكتمل، حيث الشعر يقف دائماً على النقيض من المعنى الواحد. والمعنى الواحد، أو السياق الإبداعي الواحد، وخاصة في الجنس الشعري، يقع لا محالة في دائرة النظم، وفي دوائر الحشو والترهل أو الكساد الشعري.
فالنص الذي يكتبه الصايغ، هو نص مكثف ودلالي، يميل إلى الجملة القصيرة الموحية، ومثل هذا التجريب الشعري، ولنقل «التجريد» اللفظي يسمو بالنص إلى آفاق تثري المخيلة، هو نص يجد معادله في الصورة، حيث الصورة جزء أصيل من الشعرية، كما يجد صورة أخرى له في التشكيل وفي الفنون، وفي الفلسفة والتاريخ وكافة أشكال المعرفة الإنسانية.
من هنا، يضعنا الصايغ دائماً أمام مفاجأة شعرية ومشهدية بارزة تشتغل في دائرة التكثيف والاختزال و«التخييل»، وهذه كلها أدوات وأساليب، برع فيها الصايغ في كل مرة، بمثل ما برع في استعاراته، وتشبيهاته الشعرية، التي لا يمكن وضعها أو قولبتها في إطار واحد.
لقد كان الصايغ في كل مرة يكتب فيها قصيدة جديدة، كأنه يعيد اكتشاف ذاته، وهو اكتشاف يتجاوز حدود الأنا الشاعرة، نحو مساحة المشترك الإنساني، أو الوجودي، وهي مساحة مفتوحة دائماً على كتابة جمالية وفكرية موحية، وكما قلنا سابقاً متعددة القراءات والتأويلات، وهي كلها من ميزات وخصائص الشعرية عند الصايغ منذ ديوانه الأول وحتى أعماله الكاملة رحمه الله.. وهذا كله يضعه في مصافّ الشعراء العرب الكبار الذين أضافوا إلى الذائقة الفنية والشعرية الشيء الكثير.


ليلة الأسئلة

وقالت أجرّك حالاً إلى ليلتي
قلت: بل ليلتي
واختلفنا
ليلتي شغف كالمجون
جامح ومشاغب
كإناث الكواكب
ليلتي الوقت حين تحاصر ويلاته أوله
ليلتي شرفات تجيء فلا تتقدم إلا على
جثتي
وتموء كما قطط الأسئلة
ليلتي سأم عتقته السنون
ليلتي مشكلة
وليلتها قطعة من لهيب ودورها شاطئ
الذكريات
على قدر أحلامه المذهلة
من قصيدة «كسر في الوزن»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"