لجان القراءة.. مهنة حكومية فقط

03:55 صباحا
قراءة 9 دقائق
القاهرة:عيد عبد الحليم

تعتمد دور النشر الحديثة في العالم على وجود قارئ متخصص تكون مهمته قراءة الأعمال التي تقدم إليها، ومن ثم إجازتها للنشر، لكن هناك شروطاً معينة لمن يتصدى لهذه المهنة وفق أسس تضعها كل دار على حدة، لكن أغلب دور النشر لا توجد بها هذه المهنة، التي انتقلت إلينا من الثقافة الغربية، وهنا يبرز سؤال مهم: على أي أساس تختار مثل هذه الدور ما ينشر فيها؟ وإذا وجد هذا القارئ فعلى أي أساس يتم اختياره لهذه المهنة؟ وفي هذا الاستطلاع سنعرف أن لجان القراءة تقتصر على دور النشر الرسمية فقط.
تؤكد الروائية والشاعرة د. سهير المصادفة، مدير الإدارة المركزية للنشر بالهيئة المصرية العامة للكتاب، على أن أي دار نشر كبرى لا بد أن تكون بها لجان للقراءة وفحص الأعمال المعدة للنشر، وهو ما يحدث في الهيئة المصرية العامة للكتاب كأكبر دار نشر مصرية بما لها من تاريخ عريق يتجاوز نصف القرن، ولجان القراءة تتكون من عدد من أهم الأدباء والنقاد المصريين، الذين يتميزون بالمعيارية والعدالة في الحكم، كما أن هذه اللجان تتميز بالتنوع من حيث المدارس والتيارات الأدبية المختلفة، حتى تخرج التقارير المعدة عن الكتب المقدمة للنشر متوازنة، كما أن الحكم لا يكون فردياً، فعند إجازة أي كتاب يعرض على ثلاثة محكمين، وينشر بأعلى الأصوات الموافقة عليه، ويمكن أن يعرض الكتاب على أكثر من لجنة، حتى نصل إلى أعلى نتيجة ترشح نشر الكتاب المقدم.
وتضيف د. سهير: خلال عملي في النشر لما يقرب من ربع قرن في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقبل أن أتولى إدارة النشر بها شاركت في لجان قراءة متعددة، وقمت بدور القارئ لكثير من النصوص الإبداعية والفكرية، ما منحني خبرة جيدة، حاولت أن أنقلها لكثير من العاملين معي في حقل النشر.
وحالياً أعمل على اختيار محكمين جيدين في انتقاء الكتب التي تنشر في سلاسل الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي تتميز بالغزارة والتنوع، يتم هذا الاختيار على عدة أسس: أولاً القيمة العلمية والأدبية لمن يشارك في لجان القراءة، ثانياً التخصص في سلسلة التاريخ لابد وأن يكون قارئ الكتب بها أستاذاً من أساتذة التاريخ في الجامعات المصرية، وله مؤلفات بارزة في هذا الاتجاه، وفي مجال التخصص فهناك على سبيل المثال أساتذة متخصصون في التاريخ القديم وهناك أساتذة للتاريخ الحديث، وهناك أساتذة في التاريخ الإسلامي وهكذا، وكذلك لابد لمن يحكم في مجال الرواية أن يكون روائياً أو ناقداً له مؤلفات نقدية في هذا الاتجاه، وبالمثل لمن يقرأ نصوص الشعر لابد وأن يكون شاعراً وصاحب تجربة مميزة في هذا الصدد.
ولابد أن يكون القارئ أو عضو لجان القراءة له خبرة في هذا المجال حتى يتسنى له كتابة تقرير واف عن العمل المقدم للنشر، وكذلك تكون عنده قدرة على قراءة العمل على أكثر من وجه، وأن يكون منفتحاً على النصوص العالمية، وقارئاً جيداً لكل منتج أدبي يصدر في مصر والعالم العربي، لأننا عندنا سلاسل خاصة بالإبداع العربي ننشر فيها لأدباء عرب من مختلف الأجيال في الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والأعمال الفكرية أيضاً، فعلى عضو لجان القراءة أن يكون مطلعاً على خريطة الساحة الثقافية العربية ومبدعيها من الأجيال المختلفة.

مواهب جديدة

يقول الشاعر والناقد د. محمد السيد إسماعيل: عملت في عدة دور كقارئ للنصوص المقدمة للنشر، بعضها دور نشر خاصة، وبعضها الآخر حكومية، مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة، وكانت تعرض على الأعمال الإبداعية، خاصة في الشعر، وكذلك في سلسلة الأعمال النقدية نظراً لخبرتي في هذا المجال، فأنا حاصل على الدكتوراه في النقد الأدبي ولي مؤلفات متعددة في هذا الاتجاه، وقد مارست هذا العمل لأكثر من 20 عاماً منذ تسعينات القرن الماضي.
دائماً ما أضع في اعتباري وأنا أجيز أي كتاب للنشر نفسي مكان المؤلف، خاصة إذا كان ما يريد أن ينشره هو عمله الإبداعي الأول، فأقرأه مرة ثم مرة أخرى حتى أخرج بالرأي الصواب، وحتى لا أظلم من توجد عنده بذور الموهبة التي أحاول أن أتلمسها بين ثنايا سطور الديوان الشعري أو الرواية التي أقرأها، وهناك عشرات الكتب الإبداعية التي أجزتها، لمواهب جديدة ونشرت هذه الكتب وكانت فاتحة خير على مؤلفيها الذين أصبح بعضهم الآن من الأسماء المهمة في الإبداع المصري الجديد. وهنا تغمرني السعادة لأنني كنت سبباً في تبني موهبة جديدة وظهورها، وهذا أكثر ما يسعدني ربما أكثر من قراءاتي في لجان تعرض بها دواوين لشعراء متحققين، فإن تكشفت موهبة جديدة فهذه إضافة حقيقية تحسب للقارئ الواعي.
كما أشعر بالسعادة لأنني عملت في بعض دور النشر الصغيرة، وحاولت أن أضيف من خبرتي في هذا المجال، فبدلاً من أن يقدم لنا العمل بدأت أطلب من بعض الكتاب ممن لهم أسماء في الساحة الثقافية كتباً للنشر في مثل هذه الدور الصغيرة.
أعتقد أن القارئ في دار النشر والذي مهمته أن يجيز الكتاب اختلفت معايير اختياره وصورته عما سبق، فقديماً كان مجرد موظف وقد لا يكون مبدعاً، قد يكون قارئاً جيداً فقط، أما الآن فالقارئ الذي تعتمد عليه دور النشر في معظم الأحيان هو أديب له اسمه وتجربته الخاصة، فعلى سبيل المثال كان الراحل مكاوي سعيد وهو روائي معروف يقرأ لإحدى دور النشر التي كان يشارك فيها، وكان يختار الأعمال المميزة للنشر فيها في الشعر والقصة والرواية والنقد السينمائي، وقد كان عنده خبرة في المجال السينمائي، والروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد، حين أسس لدار نشر يديرها ابنه وهي «دار الياسمين»، كان هو من يقرأ النصوص المقدمة للنشر فيها، المعايير اختلفت كثيراً، وبالتالي اختلفت ذائقة الاختيار، وربما هنا تكمن المصداقية أكثر حتى إذا خرج الكتاب للنور، خرج بالصورة المثلى التي يرضى عنها القارئ والوسط الأدبي والثقافي أيضاً.

مهنة

أما الفنان التشكيلي مجاهد العزب، المدير الفني لمركز المحروسة للنشر، فيؤكد أنه عمل في مهنة القارئ للمركز لفترة طويلة اختار من خلالها للنشر مجموعة من أهم الأعمال الأدبية، كان على رأسها مجموعة من الدواوين لأهم شعراء جيل السبعينات في مصر مثل حلمي سالم وحسن طلب ومحمد سليمان ومحمد آدم وماجد يوسف، ربما لأنه ينتمي لنفس الجيل ويرى أن تجربته في الشعر العربي تجربة مميزة، وأضافت الكثير، كما كان له دور في تحرير عدد من الكتب، وإعادة تحريرها لتناسب النشر في الدار، خاصة مجموعة أعمال أدبية لأدباء من الجيل الجديد.
لقد استفدت كثيراً من تلك التجربة على أكثر من مستوى فقد كنت القارئ الأول للأعمال التي تقدم للنشر في الدار، كما كنت المخرج الفني لها في كتب مطبوعة، ولأنني قارئ جيد قبل أن أكون مبدعاً وكاتباً للرواية والقصة، بالإضافة إلى كوني فناناً تشكيلياً، ولأنني أيضاً أحب التجريب دائماً في فنون مختلفة، والقراءة في حد ذاتها فن قائم بذاته وتحتاج إلى موهبة واحتراف، وذلك شجعني فيما بعد على إقامة دار نشر خاصة بي، وإن كانت صغيرة، كنت القارئ فيها والناشر والمخرج الفني.
وأعتقد أن لكل دار نشر توجهات معينة فهناك دور نشر محافظة تحب نشر ما يسمى ب«الأدب الملتزم» والأفكار المحافظة، وهناك دور نشر لها توجهات يسارية تنشر الكتب الأكثر جراءة، والروايات والدواوين الأكثر حداثة، وهناك دور نشر تمثل حالة وسط ما بين الحالتين السابقتين. وهناك دور نشر أنشأها مبدعون في محاولة للخروج من أزمة النشر، وهذه الدور في تزايد مستمر رغم صعوبة صناعة النشر في الوقت الراهن نظراً لارتفاع أسعار مستلزمات الطباعة، وفي مقدمتها الورق. كما أن صناعة النشر باتت مهددة للغاية مع زيادة التعامل مع وسائل الاتصالات الحديثة وظهور ما يسمى ب«الكتاب الإلكتروني»، وهذا بالتالي يحتاج من دور النشر إلى وجود قارئ لأعمالها بمواصفات خاصة من أهمها أن يمتلك خبرة كافية في التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، والتعامل مع التقنيات الجديدة في مجال النشر، بالإضافة إلى امتلاكه لمواهب لغوية، وكذلك امتلاكه لثقافة موسوعية.

خط بياني

يرى الناشر محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب الأسبق، أن كل دار تختار محررها الأدبي أو القارئ الجيد الذي يقوم بإجازة العمل للنشر وفق مواصفات تضعها مسبقاً، ومن أهم هذه المواصفات أن يكون مطلعاً على الأهداف التي أنشئت من أجلها هذه الدار، حتى يتسنى له معرفة خطها البياني في النشر، وما يتاح أن ينشر فيها وما لا يتاح، كما عليه أن يكون على معرفة تامة بسوق الكتاب بمعنى أن يعرف بحسه النقدي أي الكتب من الممكن أن يحقق نجاحاً ويكون من أكثر الكتب مبيعاً، كما عليه أن يكون عنده معرفة بما يحتاج إليه السوق من كتب، وهذا يتطلب منه أيضاً أن يمتلك ثقافة متنوعة ومختلفة، وأن يكون عنده خبرة بسير الكتاب وأعمالهم السابقة حتى يتسنى له اختيار الكتب التي من الممكن أن تكون إضافة للدار التي يعمل بها، وبالتالي إضافة لسوق الكتاب، كل ذلك يتطلب ذائقة خاصة وهذه الذائقة هي في الأساس موهبة وهبة من الله ليتمتع بها بعض المثقفين دون بعض.
ويضيف رشاد قائلاً: من خلال دار النشر التي أديرها تعاملت مع أكثر من محرر أدبي وقارئ يجيز الكتب، وهؤلاء أكثر من يتعاملون معهم الكتاب الذين ربما ينشرون لأول مرة، أو الكتب التي تحتاج إلى تدقيق شديد، أما الكتب الخاصة بكبار المبدعين فيتعاملون معها أيضاً، ولكن برأي استشاري ولو تطلب الأمر تغيير جملة أو مقطع في رواية وغير ذلك يتم الرجوع للمؤلف من خلال جلسة معه حتى يخرج العمل بصورة دقيقة وجيدة. عندما يأتي لي أحدهم ليعمل في هذه المهنة أسأله أولاً عن الخبرات التي مارسها في هذا المجال، وربما أضع له اختباراً بسيطاً بإعطائه مؤلفاً يراجعه، ومن ملاحظاته أعرف مدى قدرته على العمل من عدمها.

ذائقة خاصة

يشير الشاعر فارس خضر، مدير دار الأدهم للنشر، إلى أن من يقرأ الأعمال التي تنشرها الدار، والتي قاربت حتى الآن على مائتي عنوان تتنوع ما بين الشعر والرواية والنقد الأدبي والأدب الشعبي هو نفسه، فهو من يجيز الأعمال التي تصلح للنشر، ويستبعد تلك التي لا ترقى للنشر، حسب توجهات الدار وحسب ذائقته، ومع ذلك من الممكن أن ينشر أعمالاً متوسطة خاصة إذا كانت لأديب جديد ينشر للمرة الأولى على أمل أن يتلافى هذا الأديب ما وقع فيه من أخطاء في التجربة الأولى، وهو حين يجيز العمل الأول إنما يعمل على تشجيع المواهب الجديدة. قد تغلب نسبة نشر دواوين الشعر عندي نظراً لكوني شاعراً، ومع ذلك أحرص على نشر كتب أخرى مثل الرواية وشعر العامية والدراسات الشعبية وبعض الكتب الفكرية.
يضيف خضر: ربما لا توجد لجان قراءة حقيقية إلا في دور النشر الحكومية مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب وقصور الثقافة في مصر، أما في دور النشر الخاصة فعادة من يجيز العمل للطبع هو صاحب الدار ومديرها، أو مدير النشر كما في بعض دور النشر الخاصة الكبرى، أما فكرة المحرر الأدبي فقد تكاد تختفي في مصر في معظم دور النشر فهي إحدى المهن التي بحاجة إلى تدريب شديد، وهو الأمر الذي تفتقده معظم دور النشر في مصر.

أسماء لامعة

يؤكد الناقد جمال العسكري، مدير النشر الأسبق بالهيئة العامة لقصور الثقافة، أن مهنة القارئ الذي يقرأ الأعمال الأدبية والفكرية، التي تقدم لدور النشر، هي مهنة أصيلة وجدت مع بدايات دور النشر في الوطن العربي، وقد عمل بها عدد من أسماء لها وزنها في حركة الثقافة العربية، مثل عبد الحميد جودة السحار، وكان القارئ الأول لما ينشر في دار النشر التي يمتلكها، وهي دار نهضة مصر، وهو الذي كان يجيز أعمال نجيب محفوظ للنشر؛ حيث ظل ناشره لأكثر من نصف قرن من الزمان.
وقد عمل بهذه المهنة أدباء وشعراء مرموقون أمثال الشاعر حلمي سالم، الذي عمل لسنوات مشرفاً على لجنة القراءة في دار الغد، التي كان يمتلكها الشاعر الراحل كمال عبد الحليم، وأيضاً عمل بها الأديب عبد العال الحمامصي، والشاعر أحمد سويلم، وهي مهنة تحتاج ممن يمتهنها إلى أن يكون ملماً بقواعد اللغة العربية، وأيضاً أن يكون مثقفاً، ذا حصيلة معرفية غزيرة.
يضيف د. العسكري: «من خلال إشرافي على مشروع النشر في الهيئة، على الرغم من وجود لجان متعددة للقراءة، فإنني كنت لا أطمئن للعمل إلا بعد أن أقرأه قبل تقديمه إلى المطبعة، مع العلم أن لجان القراءة كانت تضم خبراء وعلماء ومثقفين لهم مكانة متميزة في الثقافة المصرية، وهكذا من الضروري أن يكون من يتصدى لعملية النشر أن يمتلك من المهارات ما يجعله يتقن عمله، لأنه في الفترة الأخيرة كثرت الأخطاء في كتب تطبعها بعض دور النشر الخاصة، ربما لعدم وجود مراجع لما يطبع أو عدم وجود أحد يجيز ما ينشر، لأن بعض دور النشر تريد الربح فقط، دون النظر إلى جودة العمل المنشور، وهذا بالتالي يؤدي إلى كوارث طبيعية، فالعمل الجيد لابد أن يراجع أكثر من مرة، قبل الطبع، حتى يخرج في أحسن صورة يرضى عنها المؤلف، والقارئ أيضاً».

الاعتماد على النفس

يشير الروائي خليل الجيزاوي، إلى أنه حين بدأ في تأسيس دار نشر خاصة به بدأ في الاستعانة ببعض أصدقائه من الأدباء، وقد دفع ببعض الأعمال لهم لفحصها، لكن بعد فترة قرر الاعتماد على نفسه في قراءة الأعمال التي ينشرها. ويضيف الجيزاوي قائلاً: «المسألة كذلك مرتبطة بقدرة الدار المالية في تعيين قارئ متخصص ، وذلك يوفر كثيراً من الجهد ، وهنا القارئ يتعدد، أما دور النشر الخاصة الصغيرة، والتي لا تمتلك إمكانيات مادية كافية، فلا تستطيع أن يكون بها هذا القارئ، ما يجعل الناشر يعتمد على نفسه في القراءة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"