ليبيا.. السلام الضائع

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. هشام بشير*

«ما أشبه الليلة بالبارحة»، ففي الثالث من فبراير/شباط الجاري وصف المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة - في تصريحات ل«تلفزيون بي بي سي» - ما يحدث في ليبيا ب«الصراع على الثروة النفطية»، مؤكداً أن مواعيد إجراء الانتخابات سواء النيابية أو الرئاسية ما زالت مجهولة بسبب نزاعات الليبيين، قائلاً «لا نريد تكرار تجربة 2014 بإجراء انتخابات يقبلها طرف ويرفضها آخر، وأنا أعمل بما يرضي ضميري ولن أحاول الرد على أي اتهامات بالانحياز»، مضيفاً أن الخلافات التي طفت بشكل ملحوظ مؤخراً بين كل من باريس وروما لا تصب في صالح تحقيق المرجو في الملف الليبي.
في تصريحات منفصلة لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية الصادرة باللغة العربية، نشرتها في الثالث من فبراير/شباط أيضاً، أشار المبعوث الأممي إلى أنه «سيبدأ جولة جديدة من التفاوض بين جميع الأطراف الفاعلة في ليبيا بهدف سد الفجوة القائمة»، نافياً الاتهامات الموجهة له بالتصرف في ليبيا مثل رئيس دولة وليس مبعوثاً أممياً، قال: «هذا الهجوم جيد، وأتمنى أن يتفق الإخوة في ليبيا على نظرتهم إلى ممثل الأمين العام»، مضيفاً «حقيقة الأمر أن كل طرف ليبي يفرح عندما تقف بعثة الأمم المتحدة إلى جانبه، ويريد منها أن تتقدم أكثر، لكن عندما يشعر بأنها أقرب إلى طرف آخر يوجه لها اتهامات بالتدخل في الشؤون الليبية، بعثة الأمم المتحدة تعمل بصورة تشبه الجواهرجي، وهذا يتمثل في حيادها واحترامها تماماً للتفويض الذي حصلت عليه للعمل في ليبيا».
ومن الغريب أن غسان سلامة سبق أحاديثه السابقة بمجموعة من التصريحات المتناقضة عن موعد وإمكانية إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والشروط الواجب توافرها لإمكانية إجرائها، وهو ما دعا كثيراً من أطراف الداخل والخارج إلى مهاجمة المبعوث الأممي إلى ليبيا، داعياً إياه إلى تقديم استقالته بعد التضارب الواضح في أقواله خاصة بعد إحاطته الأخيرة في مجلس الأمن في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 2019 والتي تجاهل فيها دور الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وتراجع عن إمكانية عقد الملتقى الوطني الجامع الذي روج له منذ بضعة شهور ليقام في يناير/ كانون الثاني 2019 لعدم وجود الظروف المناسبة، كما تراجع سلامة عن دعم أهم مخرجات باليرمو المتمثلة في تنظيم انتخابات في ربيع 2019، مرجحاً إجراءها قبل نهاية العام الجاري، وهو دليل دامغ على تخبط البعثة في التعاطي مع ملف الاستحقاقات الانتخابية، إضافة إلى الاعتراف الضمني من جانب غسان سلامة بفشل البعثة في إنجاز ما أعلنته سابقاً في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وعقد ملتقى وطني جامع يضم كافة أطياف الشعب الليبي والاستفتاء على الدستور هذا من جانب.
ومن جانب آخر كشفت التناقضات الكبيرة في تصريحات سلامة عن حجم الهوة الكبيرة بين الواقع الليبي المؤلم والتطلعات غير الواقعية بإمكانية تحقيق الأمن والاستقرار داخل الأراضي الليبية في المستقبل الكبير، في ظل استمرار الانقسام بين فرقاء الداخل واستمرار الصدامات العسكرية حالياً خاصة في الجنوب الليبي وتنامي حدة الصراع بين الأطراف الدولية والإقليمية على الكعكة الليبية، خاصة بين إيطاليا وفرنسا والأخيرة أصبحت تحت قيادة ماكرون أكثر اهتماماً بالشأن الليبي وهو ما أقلق إيطاليا التي تعتبر ليبيا مستعمرة اقتصادية على أقل تقدير لها بعد انتهاء استعمارها السياسي، والصراع الإيطالي الفرنسي ينذر بعواقب كارثية قد تهدد أمن دول منطقة البحر المتوسط بما فيها فرنسا وإيطاليا اللتان تعانيان كثيراً من عواقب الهجرة غير الشرعية من الشمال الإفريقي، خاصة من ليبيا التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى أكبر مصدر للهجرة غير الشرعية في جنوب المتوسط.
ليس بجديد القول إن هناك صعوبات ملموسة في إيجاد حل ناجز للأزمة الليبية مستعصية الحل وهو الأمر الذي استدعى تعيين ستة مبعوثين من جانب الأمم المتحدة حتى الآن - دونما تحقيق أي نجاح حقيقي - بداية من الدبلوماسي الأردني المخضرم عبد الإله الخطيب، الذي شغل المنصب من مارس عام 2011 وحتى سبتمبر من نفس العام، وانتهاء بالمبعوث الحالي وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة فصل بينهما أربعة مبعوثين آخرين، هم الإنجليزي أيان مارتن من سبتمبر 2011 وحتى أكتوبر 2012، واللبناني طارق متري من سبتمبر 2012 إلى سبتمبر 2014، والإسباني برناردينو ليون من أغسطس 2014 إلى أكتوبر 2015، والألماني مارتن كوبلر في الفترة من أكتوبر 2015 إلى يونيو 2017.
وفي ضوء كل المعطيات سالفة الذكر، أصبح من المؤكد أن أي جهود ستبذل من جانب غسان سلامة أو غيره من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية لحلحلة الأزمة الليبية المعقدة لن تكون ناجعة إذا لم تتوافر النية والإرادة لدى الأطراف الداخلية الفاعلة لتحقيق الأمن والاستقرار وتغليب المصلحة الوطنية على النعرات القبلية والأهواء الشخصية، وهو أمر صعب المنال حيث مازالت الدولة الليبية الهشة تعاني حالة عدم الاستقرار منذ ما عرف بثورة 17 فبراير 2011 والتي أزاحت العقيد معمر القذافي من سدة الحكم وترتب عليه لاحقاً أن تصبح ليبيا الدولة الوحيدة في العالم التي لديها ثلاث حكومات تعمل في وقت واحد، فهناك أولاً الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثني وثانياً هناك حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، وثالثاً هناك المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، وهناك جيشان الأول بقيادة المشير خليفة حفتر في شرق ليبيا والآخر يعمل تحت إمرة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني ويسيطر على أجزاء من مدينة طرابلس، فضلاً عن العشرات من الكتائب والميليشيات المسلحة التي تسيطر على جل المدن والقرى الليبية، إضافة إلى ملايين قطع السلاح المتنوعة.
وإجمالاً، من الواضح أن التناقض في تصريحات المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة يعود إلى شعوره بأنها ستواجه نفس مصير المبادرات والخطط الدولية السابقة، خاصة أن الجميع لديه إدراك تام بأن الحل الوحيد للأزمة الليبية يجب أن ينبع من الداخل بمساعدة دولية وإقليمية، وأن لغة العقل والحوار وتغليب مصلحة الوطن بين الفرقاء الليبيين يجب أن تسود وتنتصر على النعرات القبلية والانحيازات الإقليمية وهي الناجز الوحيد للأزمة الليبية التي أصبحت مثل مرض العضال.

* مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والاقتصادية بجامعة بني سويف

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"