مرهون بن بطي: الكرسي المتحرك دفعني إلى الأمام

تجاوز شلل الأطفال بالعزيمة والإصرار
13:23 مساء
قراءة 5 دقائق

التعايش مع الإعاقة إرادة امتلكها مرهون بن بطي الغافري، الموظف في الطيران العماني، وعضو مجلس إدارة الجمعية العمانية للمعاقين، الذي يعاني إعاقة حركية من جراء عدم حصوله على التطعيم ضد شلل الأطفال وهو لا يزال يحبو، ليخطو عتبة الواحد والأربعين عاما على كرسيه المتحرك .

ومع الصعوبات كبر مرهون، وكبرت معه معاناته، فعلى كرسيه المتحرك كان يتنقل هنا وهناك، ويذهب يوميا إلى المدرسة التي لا تحتوي على أي منحدرات تسهل عليه حركته وتنقلاته، فلا شيء مهيأ للأشخاص من ذوي الإعاقة، فالوعي لم يكن كافيا .

عن هذه المرحلة من حياته قال مرهون الذي كان ضمن الوفد العماني للمشاركة في مخيم الأمل الذي نظمته مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية أخيراً: كنت أذهب إلى المدرسة وأدرس كباقي زملائي، وكنت الوحيد الذي يجلس على كرسي متحرك، وكان من الضروري أن يكون زملائي معي لمساعدتي، وبحمد الله كان الكثيرون متفهمين لحالتي الصحية، وتعاونوا معي بشكل كبير، وكانوا يساعدونني في تنقلاتي، ولكن ذلك لم يشمل الجميع، فكان البعض ينظر إلي بعين الشفقة، ما كان يعطيني دافعا أكبر إلى الصمود والتحدي والاستمرار في مواجهة هذا العالم بصعوباته .

أكمل مرهون دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية، وتخطى جميع هذه المراحل بنجاح، وبدأ بعد ذلك رحلته في البحث عن عمل، ورغم أن الإعاقة كانت مصدراً لنظرات الشفقة، فإن مرهون لم يستسلم لها، بل احتضنها بكل حب، وتعامل معها كجزء منه، فقد كان يرى فيها ما لا يراه الكثيرون، أو لا يستطيعون رؤيته، ويتحدث عنها قائلاً: أحببت إعاقتي فهي التي جعلتني متميزاً ومختلفاً عن غيري، ودفعتني إلى المشاركة في أنشطة مختلفة، وأصبحت أكثر حرصا على التواصل مع الجميع والحضور في المناسبات والفعاليات المختلفة والمهرجانات المتنوعة، حتى أصبحت وجها مقترنا بالمهرجانات داخل وخارج السلطنة، وتحديدا مهرجاني مسقط وصلالة اللذين كنت أتولى مسؤولية تقديم البرامج فيهما وأشارك بفعالياتهما بكل نشاط .

كان الكثيرون يطلبون مني مساعدتهم في محاولة إخراج بعض أفراد عائلتهم من الوحدة التي أقحموا أنفسهم فيها بسبب إعاقتهم، وخصوصا ضحايا الحوادث الذين اعتادوا السير على أقدامهم ليجدوا أنفسهم فجأة عاجزين عن ذلك، وكانوا يستغربون قدرتي على التعايش مع إعاقتي والانتصار عليها . هذا ما قاله مرهون عن ردود فعل المحيطين به، ممن أدهشهم تفاعله مع المجتمع بكل ثقة .

محطات كثيرة مر عليها مرهون في رحلته نحو البحث عن فرصة عمل، أجرى خلالها مقابلات كثيرة، ولكن أوراقه لا تلبث أن توضع في الأدراج بمجرد خروجه من الباب . وطالت رحلته، حتى وصل أخيرا إلى الطيران العماني الذي استقبله المسؤولون فيه أحسن استقبال، واختاروه فورا للعمل معهم، ويقول: سألوني في البداية عما إذا كنت قادرا على القيام بشؤون العمل، فطلبت منهم أن يختبروني رغم ثقتي الكبيرة بقدرتي على ذلك، وتم تعييني في اليوم نفسه ولكنهم طلبوا مني العودة لمنزلي إلى حين يتم اختيار الوظيفة المناسبة لي، وطال انتظاري، ومر الشهر وراء الآخر، والعام بعد الآخر، وأنا أحصل على راتب دون القيام بمهام العمل، وترددت عليهم مراراً وتكراراً وسألتهم إن كان ما يفعلونه معي سببه الشفقة علي، وكانوا يستنكرون سؤالي ويردون علي في كل مرة بأنهم يبحثون عن المكان المناسب لي . عامين وأكثر وأنا أتقاضى راتبا دون عمل، ما دفعني إلى القيام بحركة تعلن رفضي واحتجاجي على ذلك، حيث شاركت في برنامج تلفزيوني كان يجري حوارات مع الأشخاص من ذوي الإعاقة، وتحدثت بكل صراحة عن إعاقتي وأمور أخرى، وأصررت على التحدث عن عملي في الطيران العماني مع وقف التنفيذ، ليتصل بي المسؤولون في اليوم التالي ويخبروني بأنهم وجدوا لي المكان المناسب، وبدأت عملي في البريد الصادر والوارد للشركة في عمان وخطوط الطيران العماني المختلفة . وفي كل مرحلة حياتية تعود الإعاقة لتتحداني، وتقف في وجهي، فها أنا اليوم اعمل ولم يعد أمامي سوى البحث عن زوجة تكمل معي مشوار حياتي، وبدأ المشوار الذي كان من الطبيعي أن أسمع فيه الرفض في كل مرة، حتى تعرفت إلى زوجتي، المعلمة الأردنية التي كانت تعمل في سلطنة عمان، وكانت تمتلك من الوعي ما يكفي لأن تقبل ظروفي بل تساعدني على إكمال مسيرتي في الحياة، ورغم معارضة أهلها في بداية الأمر، فإنها تمكنت من إقناعهم على الموافقة، وها هي شجرتي الصغيرة تكبر، وتثمر عن لمى ومحمد .

من الدراسة إلى العمل إلى الزواج، سلسلة لا تنتهي، حلقاتها موصولة ببعضها بعضاً، وحين نصل إلى آخرها، تبدأ مرة أخرى، فهي كالحياة التي لا تخلو من جديد، فمتطلباتها لا تنتهي، وسعينا فيها يفرض علينا أمورا كثيرة .

معاناة مرهون الكبرى تمثلت في حركة تنقله بين مكان وآخر، فهو موظف وزوج وأب، وعليه مسؤوليات كثيرة، وهنا كان لا بد من قيادة السيارة، الدوامة التي أدخلته في متاهة طويلة، وجد لها الحل في النهاية .

عن هذه المعاناة التي وصفها بالصعوبة الكبرى في حياته يقول: يجب على الأشخاص من ذوي الإعاقة الخضوع لفحص طبي قبل إصدار تصريح يمكنهم من القيام بالتدريب للحصول على رخصة القيادة، ويتم هذا الفحص عن طريق مستشفى الأمن، ويقرر الطبيب قدرة الشخص على القيادة أو عدمها، وحين قابلني الطبيب أخبرني أن إعاقتي في قدميّ الاثنتين ويدي اليسرى، ما جعله يرفض إعطائي تصريحا للقيادة، وهنا شعرت بأن الدنيا تدور بي، فمن حولي يجبرونني على تذكر إعاقتي في كل لحظة أحاول فيها نسيانها، ولكني كالعادة، لم أقف عاجزا، بل قمت بشراء سيارة وتركيب جهاز القيادة باليد فيها، وهو جهاز مخصص لذوي الإعاقة الحركية، وبدأت بقيادة السيارة لمدة سنتين دون رخصة، لأذهب بعدها إلى الطبيب والشرطة وأعترف لهم بالأمر، وطلبت من الطبيب أن يرافقني في رحلة بالسيارة، ففوجئ بما يرى وأخبرني في اللحظة نفسها أنه لو كان يمتلك الرخصة لأعطاني إياها فورا، ومنحني التصريح لأذهب فورا وأبدأ باختبارات القيادة وحصلت على الرخصة بعد فترة قصيرة .

خالف مرهون القانون، ولكنه اعتذر عن فعلته وتحدث عبر الإذاعات والتلفزيونات عما فعل، ولكن مبرره لذلك كان أنه إن لم يفعل ذلك لكان حتى اليوم حبيس غرفته يناشد الآخرين أن يقوموا بأموره ومهامه الشخصية .

أكد مرهون رغم مرور الأربعين عاما على ولادته، أن الوعي لا يزال قاصرا في ما يخص الأشخاص من ذوي الإعاقة، وطالب المهتمين بعدة أمور تضمن للمعاق حياة أفضل، وقال: الأماكن العامة غير مهيأة للمعاق، فنحن بحاجة إلى منحدرات تسهل علينا الحركة، ودورات مياه مخصصة، كما نطالب الجمهور بالوعي في ما يخص مواقف المعاقين، فهم ليسوا في حاجة إليها كما نحتاج إليها نحن . وها هو اليوم، لا يزال يجلس على كرسيه المتحرك، ولكنه سعيد به سعادة لا توصف، فلم يعد هذا الكرسي عائقا أمام تحقيق ما يريد، بل يوصله إلى ما يريد ويدفعه إلى الأمام، وأنهى مرهون قصته بعبارة لا إعاقة مع الإرادة، ولا إعاقة مع التكافل الاجتماعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"