مقررات برلين.. هل تردع أردوغان؟

02:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية (19 يناير/كانون الثاني الجاري) كان المؤتمر الأوسع تمثيلاً، والأرفع مستوى للحضور، والأفضل إعداداً لجلسة القمة من بين الجهود الدولية التي تم بذلها؛ لمعالجة هذه الأزمة شديدة التعقيد.
تأجل انعقاد المؤتمر عدة مرات، وشهدت الفترة السابقة لانعقاده جهوداً دبلوماسية مكثفة على مستوى القمة بين الدول المشاركة فيه بقيادة ألمانيا، الدولة المضيفة؛ لتذليل الخلافات المتعلقة بكل جوانبه تقريباً.

تطورات ضاغطة

وأخيراً، انعقد المؤتمر تحت ضغط ظروف محلية وإقليمية ودولية متشابكة، جعلت من الضروري التعجيل بانعقاده.
فعلى المستوى الداخلي كانت قوات الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، قد بدأت منذ إبريل/نيسان 2019 في شن هجومها على العاصمة طرابلس، وحاصرتها وتمكنت من السيطرة على عدد من ضواحيها ومشارفها، كما سيطر الجيش الوطني - قبل عدة أيام من انعقاد المؤتمر- على مدينة (سرت)، وبدأ في التقدم نحو مدينة (مصراتة) ذات الأهمية الاستراتيجية.
ومعروف أن الجيش الوطني يحظى بدعم كامل من البرلمان الليبي المنتخب (ومن ثم الشرعي) كما يتمتع بدعم عدد من البلدان العربية بالغة التأثير والأهمية، في مقدمتهما مصر والإمارات والسعودية، وكذلك بدعم دول كبرى في مقدمتها روسيا وفرنسا.
وعلى الجانب الآخر، فإن حكومة فايز السراج في طرابلس المسماة «الحكومة المعترف بها دولياً- القائمة على أساس (اتفاق الصخيرات/ديسمبر 2015) والمستندة إلى ميليشيات» «الإخوان المسلمين» وغيرها من الميليشيات الإرهابية والمتطرفة، وإلى الدعم التركي- بصفة أساسية - على المستوى الإقليمي والدولي، هذه الحكومة كانت تواجه المزيد من الهزائم والعزلة الداخلية والإقليمية والدولية، وبدأ يلوح شبح إمكانية سقوطها، بالرغم من المساعدات العسكرية الكبيرة التي تقدمها لها تركيا.
وقد شهدت العلاقات بين حكومة السراج وتركيا تطوراً خطراً؛ بإقدام الطرفين (السراج وأردوغان) على توقيع اتفاقين حول الحدود البحرية، والتعاون الأمني في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

تركيا.. ونشر الإرهاب

ثم طلبت حكومة السراج التدخل العسكري التركي في ليبيا؛ بناء على الاتفاق الأمني المذكور، الأمر الذي مثل تطوراً بالغ الخطورة، فقد بدأت تركيا في الدفع بكميات ضخمة من الأسلحة المتطورة، وبأعداد كبيرة من الخبراء العسكريين إلى ليبيا، والأخطر من ذلك أنها بدأت في نقل آلاف من الإرهابيين الموالين لها من إدلب والشمال السوري إلى طرابلس وما حولها، مع الإعداد لنقل آلاف أخرى- كل ذلك خلال عدة أسابيع.
وتمثل هذه الخطوة غير المسؤولة تهديداً بالغ الخطورة للأمن والسلام ليس في ليبيا وحدها؛ بل تعد تهديداً بنشر الإرهاب في الشمال الإفريقي كله، والصحراء الإفريقية وأوروبا.

القضية على صفيح ساخن

هذه التطورات الأمنية بالغة الخطورة، وضعت القضية الليبية على صفيح ساخن، وجعلت الدول الأوروبية الكبرى تهتم بالتحرك السريع؛ للسيطرة على الوضع الذي يهدد بالانفلات الكامل في ليبيا.
ومن ناحية أخرى، فإن المصالح الدولية ذات الطابع الاستراتيجي تمثل خلفية أساسية للاهتمام بليبيا، باعتبارها تعد دولة نفطية كبيرة، إلى جانب أنها تملك احتياطياً نفطياً يبلغ نحو (50 مليار برميل) من الزيت الخام، إضافة إلى تريليونات من الأمتار المكعبة في باطن أرضها ومياهها الساحلية.
ولم يكن معقولاً بأي حال أن تترك أوروبا وأمريكا الساحة خالية لروسيا (من خلال حفتر) وتركيا (من خلال السراج)؛ للسيطرة على ليبيا، وتقاسم النفوذ فيها، لا من حيث اعتبارات الموقع الاستراتيجي في مواجهة أوروبا والجناح الجنوبي «للناتو»، ولا من حيث الثروات النفطية، ولا من حيث المخاطر الأمنية.

مقررات برلين.. ومشكلاتها

وبالتالي كان لابد من التحرك بسرعة؛ لعقد «مؤتمر برلين»، وقد اتخذ «مؤتمر برلين» عدداً كبيراً من القرارات تتوزع على ستة أقسام رئيسية، في مقدمتها وقف إطلاق النار؛ ووقف تدفق الميليشيات الأجنبية؛ ونزع سلاح الميليشيات الموجودة؛ وتشكيل مجلس رئاسي وهيئات للسلطة إلخ؛ لكن مقررات «مؤتمر برلين»- بالرغم من تفصيلاتها الكثيرة - يعيبها أمران كبيران:
* أولهما: أنها تقوم على أساس «اتفاق الصخيرات» وبالتالي تجدد شرعيته؛ وهو الاتفاق المرفوض من جانب البرلمان الشرعي والجيش الوطني.
* وثانيهما: غياب الآليات الواضحة للتنفيذ والجدول الزمني المحدد للعملية بكاملها؛ ولذلك رأينا مثلاً أن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يجتمعون بعد انتهاء المؤتمر؛ لبحث آليات التنفيذ. بينما يرفض الجانبان المتقاتلان الاجتماع لتشكيل لجنة فني؛ة لمراقبة وقف إطلاق النار (خمسة من كل جانب)، كما رأينا الميليشيات الإرهابية التابعة للسراج تنتهك وقف إطلاق النار، وتحاول الانتشار خارج خطوطها الحالية، ما دفع قوات حفتر للرد عليها، في منطقة سرت وجنوب شرقي طرابلس.

فرصة أردوغان الذهبية

العيبان الرئيسان اللذان ذكراً آنفاً يقدمان لأردوغان فرصة ذهبية للتملص من أي التزامات جدية، فدفعات الإرهابيين التابعة له، والأسلحة الحديثة لا تزال تتدفق على طرابلس حتى هذه اللحظة، وهو بعد فشل محاولته مع تونس لاتخاذها معبراً إلى غرب ليبيا يحاول التقرب إلى الجزائر، وتقديم إغراءات اقتصادية لها، ومشاركة في الصناعات العسكرية، مستغلاً موقفها الرافض لسيطرة حفتر على طرابلس، وتقديرنا أن هذه المحاولة سيحكم عليها بالفشل؛ لأن الجزائر أكبر من هذه الإغراءات، كما أن الدبلوماسية العربية النشطة لا تترك مجالاً لهذه الألاعيب (لاحظ اجتماع دول الجوار في الجزائر، ثم زيارة وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان للجزائر في اليوم التالي مباشرة لزيارة أردوغان (27 يناير/كانون الثاني).
وقد قامت القبائل العربية في منطقة الهلال النفطي- تحت حماية قوات حفتر- بالسيطرة على نحو (450 بئراً نفطية) في المنطقة تنتج نحو (70%) من نفط ليبيا، بما قيمته نحو (55 مليون $) يومياً، مطالبة بتقسيم عادل لثروة البلاد النفطية بين أقاليمها، وبسحب الشرعية من حكومة السراج التي تسيطر على إيرادات النفط بموجب «اتفاق الصخيرات»، وبحكم سيطرتها على البنك المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، للسماح باستئناف ضخ البترول، والحقيقة أن خطوات مثل هذه هي التي يمكن أن تمثل ضغطاً على حكومة فايز السراج، وتجفف منابع تمويل الإرهاب التركي وغير التركي.
وما لا يقل أهمية عن ذلك هو أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتخذ خطوات جادة؛ للضغط على أردوغان لوقف تدخله، وللتخلي عن اتفاقاته غير الشرعية مع حكومة السراج، والكف عن إرسال الإرهابيين وسحب الإرهابيين الموجودين حالياً، ونعني تحديداً ضرورة اتخاذ عقوبات اقتصادية مؤثرة ضد تركيا، تجعلها تشعر بالكلفة الفادحة لمغامراتها الإمبراطورية الخطرة في ليبيا.
وبدهي أن الدول العربية الداعمة لحفتر لابد أن تستمر في تدعيمها - بل وتصعده- طالما أن تركيا تواصل تدخلها العدواني متخذة من السراج ستاراً «شرعياً» زائفاً.
أما مقررات برلين بتأكيدها شرعية الصخيرات وغياب آليات التنفيذ والجداول الزمنية الدقيقة، والعقوبات الرادعة للمعتدي، فلن تحمل أردوغان على الانسحاب من ليبيا، وستطول معاناة الشعب الليبي إلى أن يتمكن جيشه من تحرير بقية أرضه.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"