من المغامرة إلى القتل

02:44 صباحا
قراءة 7 دقائق
** يوسف أبولوز

يرتبط اللعب، أو، ترتبط ظاهرة اللعب بظواهر مجتمعية، وتربوية، ونفسية، وميثولوجية، وأسطورية، وذلك تبعاً لكل لعبة، وأدواتها، وعناصرها، سواءً من البشر، أو من الحيوان، أو من أي مكوّن آخر يضيفه الإنسان إلى فضاء اللعبة، وهو في العادة فضاء اجتماعي عام، ولكي تتحقق اللعبة، وتؤدي وظيفتها مهما كان متطلب هذه الوظيفة لا بدّ من مجموعة تؤدي اللعب، فاللعب، نشاط جماعي.
يرتبط اللعب أيضاً بالبهجة، والخفة، والسرعة، بخاصة في ألعاب الطفولة التي يحاكي فيها الطفل الظواهر، والمهن، والأشغال التي تمارس يومياً في محيطه المكاني والاجتماعي، وعلى سبيل المثال، يقلّد الأطفال في القرى والبلدات الزراعية الريفية الفارس والحصان، عندما يتخذ الطفل من العصا حصاناً، ويأخذ يجري واضعاً العصا بين رجليه، وقد أثار خلفه زوبعة من الغبار، مقلّداً بذلك جري الحصان، أو يقلّد الأطفال آباءهم المزارعين عندما يصنعون أعواد الحراثة، ويحاكون آباءهم في حراثة الأرض.
إنه اللعب الشعبي الريفيّ الفقير الذي يشجع المخيلة على محاكاة الواقع بهذا السلوك الفطري الذي لا يكلّف شيئاً، بل، يضفي جواً من البهجة والسعادة على هؤلاء الناس البسطاء الشعبيين الذين لا يجدون ما يتسلّون به غير التراب والحجارة مثلاً، وذلك عندما يلعب كبار السن ما تسمى في الأرياف لعبة «السيجة»، إذ يقوم أحدهم برسم ما يشبه رقعة شطرنج على التراب الذي يُعيّن عليه مكاناً صغيراً لحجر صغير، وأظن أن هذه اللعبة الشعبية الفقيرة هي شكل من أشكال الشطرنج.

(1)

سرعان ما يخرج الإنسان من فضاء اللعب البريء إلى نوعين من اللعب: لعب المغامرة، ولعب المقامرة. لقد ترك الإنسان مع مرور الأيام وراءه ألعابه الطفلية البريئة، وأخذ حتى الطفل يلعب مع الكبار، هذا بالطبع إلى جانب لعب الكبار مع الكبار، ومن ألعاب الكبار تسلق الجبال على سبيل المثال، وهنا يضع الإنسان المخلوق الضعيف نفسه في تحدٍ مع الطبيعة.. يستقوي على الجبل والصخور الشاهقة كما لو أنه يريد ترويض الجغرافيا بعضلاته ومغامراته الناقصة دائماً، فهو حتى في لعبة تسلّق الجبال يحمي نفسه بمجموعة من الحبال، والأوتاد، والكمّاشات التي تساعده في الوصول، ثم الصعود إلى أعلى، كما لو أنه يريد الاستقواء على أمّه الأرض والانفلات من جاذبيتها وأموميتها.

(2)

من لعب المغامر.. إلى لعب المقامِرْ، وهذا اللعب الثاني يتخلص تماماً من المعنى الطفولي للعب. إن لعب المقامر هو لعب مرضي بامتياز. إدمان وهلاك بطيء نحو الأسفل. نحو القاع. فإذا كان المغامر في لعبة تسلّق الجبال يحلم بالوصول إلى القمة فيصل إليها، ويجلس فوقها منتشياً بانتصاره على الجبل، فإن لعب المقامر يسحبه من قمة كينونته البشرية السوية الجميلة إلى الحضيض.. إلى القاع.
عدّة لعبة المقامر هي إما زهرات النرد، أو الروليت، وهناك من يقامر بلعب ورق (الكوتشينة)، وضمن هذه الخريطة المحددة بجهات أربع هي المقامرة.. والمقامرة فقط، فإن المقامر سيعرف شيئاً آخر بالتالي، وهو المراهنة، والرهان صورة بشعة مأساوية في حياة المقامر، الذي خرج من مفهوم اللعب إلى حياة مستلبة تماماً، والنرد، بحسب الباحث د. أكرم زيدان في كتابه «سيكولوجية المقامر» يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، حيث وجدت قطعة نرد في أحد قبور الفراعنة المصريين، ويشير د. زيدان إلى أن المؤرخ «تاسيتوس» يذكر أن قبائل الجرمان الأوائل كانوا في ألعابهم يراهنون على زوجاتهم وأطفالهم، وحتى على أنفسهم، والخسارة تؤدي بهم إلى الرق، والعبودية.
ويذكر د. زيدان أن صينياً قديماً راهن على يده، فلما خسر الرهان في اللعبة قطع يده، وتروي -المهابهاراتا- وهي واحدة من الملحمتين المكتوبتين بالسنسكريتية في الهند القديمة.. حكاية الملك الطيب -يودشتير- الذي لعب القمار مع الملك الخبيث -ساكوني- وهو الخبير في استعمال النرد المغشوش، ثم تروي الحكاية كيف بدأ الملك الطيب يخسر الجولة بعد الأخرى، إلى أن أفرغ خزانته من الذهب والياقوت، وإلى أن خسر الخيول، والفِيَلة، والمركبات، والعبيد، ثم كيف راهن على إخوته، وزوجته الملكة الفاتنة -دور بادي- فخسرهم جميعاً، وأخيراً راهن على نفسه.. وخسر كل شيء.

(3)

انتقل اللعب من كونه نشاطاً يجذب للفرجة والتسلية والإشباع الغريزي لحاجة اللعب في حدّ ذاته، إلى كونه مغامرة، ثم إلى كونه مقامرة، ثم إلى وصفه رهاناً، ثم إلى وصفه رياضة، ومن هذه الرياضيات التي يختلط فيها اللعب بالرياضة، وربما المراهنة أيضاً، لعبة مصارعة الثيران، ومرة ثانية يستقوي الإنسان على الحيوان فيقتل الثور الذي يرمز إلى القوة، والفحولة، والخصب، في ساحة مفتوحة محاطة بجمهور هائج سادي هو الآخر، وهو يتابع مصارع الثور (الماتادور) وهو يستدرج الحيوان إلى الهياج بقطعة قماش أحامر، ثم حين تأتي له الفرصة يقوم بغرس السهام في رقبة الحيوان المسكين الذي يتهالك ويرتخي، ثم يرتمي على الأرض، ليجهز عليه المصارع بالسيف.
لا بطولة، مطلقاً، للماتادور في حلبة اللعب هذه، ذلك أن سهامه التي يغرزها في رقبة الثور مسمومة، أو أنها تجعل الحيوان يتخدّر فتخذله قوّته، وينهار، ومثلما يستقوي المتسلق على الجبل، فيقف على قمته بذلك الغرور، كذلك يستقوي المصارع على الحيوان المنهك بالسهام، وفي ذروة ضعفه، يذبحه، ويقطّع لحمه، ويبيعه.. ثم يأكله.
المصارع يأكل لحم ضحيته في لحظة إشباع تام بفكرة الانتصار، والغريب أيضاً، أن صاحب الديك في لعبة صراع الديكة، قد يذبح طائره المهزوم هذا، ويقطع لحمه، ويأكله..
في لعبة مصارعة الثيران.. «الماتادور»، أي المصارع هو ضحية، والثور أيضاً ضحية، وفي الحالين يستعير الشاعر، بشكل خاص، من هذه الثنائية ما يخدم رموزه، وإشاراته، وتوظيفاته الشعرية، وقصيدة لوركا البكائية في مصارع الثيران «إغناثيو سانشيز ميخياس».. معروفة..
«قولوا للقمر أن يأتي
فلا أريد أن أرى دَم
إغناثيو على الرمل
لا أريد أن أرى دمه
القمر مفتوحٌ على مصراعيه
جوادُ السحب الساكنة
وحلبة المنام الرمادية».

(4)

هل انتقل اللعب من كونه رهاناً، أو مغامرة، أو مقامرة إلى كونه تعذيباً؟.. نعم، فالطاغية، سيكولوجياً، ينطوي على «كتلة» مرعبة من السادية، ففعل التعذيب في حدّ ذاته، وعلى مرأى من الجلّاد، أو على مرأى من الطاغية يحقق لهذا النوع من الناس المرضى إشباعاً «حيوانياً»، يخرج بآدمية البشر من صفتها النبيلة الكريمة إلى صفة الحيوان، أو الحيونة.
يلعب الجلّاد، وفي الوقت نفسه يقوم بالتعذيب، مرة ثانية: الفرجة، والتسلية، ويضاف إلى ذلك الانتقام في مثل هذا اللعب الأسود.
يذكر الباحث بيرنهاردت.ج. هروود، في كتابه «تاريخ التعذيب»، ترجمة: ممدوح عدوان، أن القيصر كايوس المشهور باسم كاليجولا كان مهووساً هوساً كاملاً، وكان يجد في ممارسة التعذيب أفضل وسيلة لقضاء الوقت، وكان من المألوف عن هذا القيصر المعتوه أن يجلب السجناء، أو العبيد ليعذبوا إلى جانب مائدة العشاء، حيث يقوم بتسلية ضيوفه، ولحسن حظ روما أنه اغتيل وهو في التاسعة والعشرين من عمره، ومع ذلك، فقد حزن عليه رعاياه الذين أحبّوه من أجل الحفلات الدموية والباذخة التي كان يقدّمها لهم.. وسوف يلاحظ القارئ في حكاية هذا القيصر المريض أنه يسلي ضيوفه بحفلات من الدم تجري على شكل ألعاب متناوبة، وأبشع من ذلك أن رعاياه الذين حزنوا لموته هم الآخرون امتدت إليهم عدوى الهوس بهذا اللعب السادي.
اخترع العقل البشري في ذلك الزمن القيصري والروماني القديم أشكالاً عدة للتعذيب أكثر شناعة ووحشية من حفلات كاليجولا، وكل تلك الأشكال التعذيبية كانت تجري على شكل ألعاب يحضرها الشعب، والعامة، والخاصة من الناس في مشهد احتفالي كرنفالي، تماماً كما لو كان هؤلاء الناس في حمّى لعبة مصارعة بشر، أو مصارعة ثيران، أو في حمّى هياج لعبة كرة القدم.
من أشرس بشاعات اللعب بالإنسان، وتعذيبه، وإهانة كرامته وجسده ما أورده بيرنهاردت، يقول: «يصف كاتب إغريقي آخر، هو لوشيان في (محاوراته) تعذيباً مرعباً أكثر وغير معروف تماماً، يحكي، بالتفصيل، كيف يخطط مجموعة من الرجال للإمساك بعذراء لكي يحشوها في بطن حمار مقتول حديثاً، ويخيطوا عليها، ويتضح أن رأسها وحده هو الذي سيكون ظاهراً، وستزداد غبطتهم وهم يراقبون تفاصيل عذابات الفتاة، ليس فقط أنها ستشوى بأشعة الشمس، بل ستتعذب جوعاً، وعطشاً، ونتناً، ويقولون إن ما هو أفضل من هذا كله أن يديها ستكونان محجوزتين داخل الجثة المتعفنة لمنعها من الانتحار.. وسيزداد عذابها كلما ازداد التفسخ والتعفن، ستعذبها الديدان المتضورة، وفي النهاية حين تأتي الطيور لتأكل اللحم المتفسخ فإنها ستأكلها حية خلال ذلك، ويضيف لوشيان: وافق الجميع على هذا الاقتراح الرهيب وبدأوا بالإجماع وضعه موضع التنفيذ».

(5)

.. هل من مجازات سياسية لمفردة اللعب التي تمددت من صفة الفرجة، والتسلية، والرهان، والمغامرة، والمقامرة، والتعذيب، إلى وصفها مفردة مستعملة يومياً الآن في قاموس الأدبيات السياسية العالمية، فمن لعبة العصا والجزرة التي ترمز في السياسة، إلى المعاقبة والمكافأة للدول لقاء تجاوبها أو استجابتها لقرارات وإملاءات دول أخرى أكثر هيمنة، وأكثر نفوذية.. إلى لعبة القط والفأر.. لعبة الخبث والذكاء والدهاء، ثم إلى ما يشبه المصطلح المتداول اليوم وهو «اللعب بالنار»، وعندما تعطي دولة ما تصريحات غامضة ملتبسة توصف سياستها بأنها «لعبة كلمات متقاطعة»، ثم إذا انتهت سياسة دولية إلى نتائج نهائية كارثية، أو غير كارثية.. يقال عادة «انتهت اللعبة»، أو «انتهت المسرحية»، ثم إذا أصرّت دولة على موقف ما، مقابل إصرار دولة ثانية على موقف مغاير، مثلاً، يقال نحن إزاء لعبة عضّ الأصابع، وهناك أيضاً في المجازات السياسية لعبة شدّ الحبل، و»الاستغماية«، وغيرها من ألعاب حقيقية تقام على الأرض بين مجموعات وأفراد.. وجميعها جرى شحنها بإشارات، ومحمولات، ومجازات، وكنايات سياسية تحوّل فكرة اللعب إلى قاموس نفعي وظائفي ليس له علاقة مطلقاً بذلك الشطرنج الترابي القروي الذي كان يلعبه آباؤنا البسطاء الفطريون الذين ما عرفوا يوماً انتهازية اللعب و»اللّعيبة«..»اللعيبة» المغامرون والمقامرون والمراهنون حتى على زوجاتهم.

نشاط جماعي

نادراً ما يلعب الإنسان الفرد وحده.. في الشطرنج مثلاً لا بدّ من لاعبين اثنين؛ حيث الندّية، والصراع، والذكاء والتمهّل والتخطيط، وفي المصارعة يلتقي الجسد بالجسد ضمن استعراض مذهل للقوة التي تؤدي أحياناً إلى الموت كما في لعبة الملاكمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"