هجمات «الضجيج المزعج».. فرضيات تنتظر الحسم

تعرض لها موظفو السفارة الأمريكية في كوبا
03:28 صباحا
قراءة 6 دقائق
إعداد: محمد هاني عطوي

في نوفمبر 2016، كان أحد أعضاء السفارة الأمريكية، الذي وصل إلى كوبا خلال فصل الصيف، مستلقياً على سريره في غرفته بفندق كابري، عندما بدأ صوت غريب يزعجه، لينتهي به الأمر بالإزعاج الشديد وعدم القدرة على النوم والتركيز. وفي اللحظة التي كان ينهض فيها من السرير لتحديد مصدر الضوضاء، بدأ الصوت في التلاشي. وما أن يعاود الاستلقاء حتى يعود الضجيج الغريب مرة أخرى.
بعد بضعة أيام، شعر موظف السفارة بأعراض غريبة، وبدأ لا يسمع بشكل جيد، وظهر عليه الاضطراب الشديد، وتجلى ذلك بنسيانه ما يريد قوله مع صعوبة في التركيز. حذر الرجل رؤساءه في السفارة لكنهم طلبوا منه الذهاب للطبيب. وما أن عاين الطبيب هذا الرجل حتى وقف حائراً أمام أعراض مرضه، وقرر أن يعيده إلى الولايات المتحدة. اعتقد أفراد الطاقم العاملين في السفارة، أن حالة هذا الشخص خاصة به ومعزولة، ولكن على مدى أسابيع، بدأ موظفون آخرون يواجهون مشاكل مماثلة.
بدت الأمور بالنسبة للبعض أكثر خطورة، وكانوا يسمعون صفيراً غير عادي في الأذنين مع فقدان في التوازن، والشعور بصداع، وغثيان، وعدم القدرة على النوم. وانتهى الأمر إلى نقل أحدهم إلى المستشفى، وشخصت حالته بارتجاج في الجمجمة وفقدان في الذاكرة، كما لو أنه تلقى ضربة عنيفة على الرأس.
وعلى مدى أشهر، ظلت القضية طي الكتمان، لكن في أغسطس 2017، كشفت هيذر نويرت، الناطقة باسم وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها، أن أعضاء من الحكومة الأمريكية كانوا في مهمة بالسفارة في كوبا وأصيبوا بوعكة صحية على إثر تعرضهم لحوادث غريبة. أثار هذا الأمر فضول الصحفيين، خاصة بعد أن علموا بأن الضحايا ليسوا موظفين عاديين، وإنما عملاء. والحقيقة أن هذا الأمر في حد ذاته ليس مستغرباً، فمنذ الستينات، وعلى الرغم من القرب الجغرافي بين البلدين، كانت العلاقات بين كوبا والولايات المتحدة معقدة إلى درجة أن مصير الجزيرة الكورية كان موضع توتر شديد دائماً. وبعبارة أخرى، وُضعت كوبا تحت المراقبة الشديدة والعملاء السريين الأمريكيين، ولكن هل تم تحديد مصدر «الداء» لاستهدافه وإبعاده عن إيذاء موظفي السفارة، دون إثارة للغط وجذب لانتباه الآخرين؟. وتأكدت شكوك الصحفيين بعد شهر، في سبتمبر 2017، خلال إجرائهم للمؤتمرات الصحفية، توقف المسؤولون الأمريكيون عن التحدث حول تلك الحوادث، وكانوا يقولون فيما لو وجّه لأحدهم أي سؤال عن الموضوع: «إنها هجمات، لأن أعراض الأشخاص المتضررين متشابهة ويبدو أنها تأتي من نفس المصدر». وإجمالاً، أصيب نحو 40 شخصاً من أعضاء السفارة الأمريكية مع أسرهم بهذه الأعراض في عام واحد.
وجد الباحثون، الذين أجروا التحاليل للصور الطبية بطلب من الحكومة الأمريكية أن أدمغة هؤلاء الدبلوماسيين تعرضت «لشيء ما سبب تغييرات فيها». ولم تتوصل الدراسة، التي نشرتها مجلة الأكاديمية الأمريكية للطب، وأجراها أطباء من جامعة بنسلفانيا، إلى سبب العوارض التي سجلت لدى الدبلوماسيين بين نهاية 2016 ومايو 2018
الغريب، أن هذا الأمر لم يحدث في السفارة، بل وقعت الهجمات في مساكن الموظفين، أو في غرفهم الفندقية. ولكن كيف تم ارتكابها؟. أحد الافتراضات يميل إلى أن السلاح المستخدم كان يبعث صوتاً خارج الترددات التي تستطيع الآذان إدراكها أو تحملها، أي أنها موجات صوتية ذات تردد خطير جداً، أو موجات تحت صوتية تقل عن 20 هرتز، على عكس الموجات فوق الصوتية الحادة للغاية، أو الأعلى من 20 هرتز. ومن المعروف أنه عند هذه الترددات، لا نسمع شيئاً، ولكن هذا لا يعني أن الموجات لا تؤثر في آذاننا أيضاً. فمثلاً تستخدم الموجات فوق الصوتية في الطب، لتفتيت الحصوة الكلوية. وتنخفض قوة الموجات فوق الصوتية بسرعة كبيرة مع تزايد المسافة، ويمكن لأصغر قطعة من الطوب أو الخرسانة أن توقفها. وإذا كان الدبلوماسيون مستهدفين من الخارج ببندقية أو بمدفع يعمل بالموجات فوق الصوتية، فإن هذه الموجات لا يمكن أن تكون فعالة بهذا الشكل، ولكي تعمل يجب أن يكون هناك مكبر صغير مخبأ في وسادة الشخص المعني، وهو يغط في نوم عميق، وهو أمر غير ممكن، لأنه كان سينكشف بالتأكيد بمجرد أن يضع الشخص رأسه على الوسادة. وهنا تبقى فرضية الموجات تحت الصوتية أي ما دون 20 هرتز، والتي لا تستطيع الأذن البشرية أن تلتقط دونها أي شيء تقريباً، أما الجسم فيستمر في تلقي موجات الهواء المهتزة.
أجريت عدة دراسات، على مدى السنوات الخمسين الماضية، لمعرفة ما إذا كان التعرض لاهتزازات ذات تردد منخفض جداً يمكن أن يسبب أعراضاً منهكة للفرد، وهو أمر يهم بالطبع الجيشين الأمريكي والروسي على وجه الخصوص، للتوصل إلى صنع سلاح غير مميت وغير مرئي، وقادر على وقف مسلحين مشاة منتشرين في مسرح الحرب. ولكن يبدو أن الأبحاث في هذا المجال لم تحقق النجاح. أما في الحياة اليومية، فقد أجريت دراسات تتعلق بتأثير مثل هذه الأمواج الصوتية على بعض الموظفين الذين يعملون بالقرب من الأجهزة دون السمعية، مثل مراوح التهوية الضخمة في المباني الصناعية أو محركات الطائرات الكبيرة في مصانع الطائرات.
ولم تظهر كل هذه الدراسات آثار ضارة ودائمة. فمثلاً يمكن أن ننفر تماماً من صوت ذي تردد منخفض جداً، ولكن حتى الآن، لم يكن ممكناً إيجاد الصلة بين التعرض للموجات دون السمعية وظهور اضطرابات صحية بعد عدة أشهر أو سنوات. ويعتقد عدد قليل من الأطباء أن موظفي السفارة الأمريكية في كوبا، تعرضوا لهجوم بواسطة سلاح صوتي، بما يطرح التساؤل: ما هو هذا السلاح؟ هنا تجدر الإشارة إلى أن الصوت عبارة عن اهتزاز في موجات الهواء، التي تتحرك تدريجياً حتى تصل إلى الجسم، ولكي تعمل على هز كتلة من الهواء، يجب أن تطبق عليها كمية من الطاقة كي تصل إلى الشخص الذي يراد استهدافه من مسافة بعيدة. والدليل على ذلك، كبر حجم مكبرات الصوت في حفل يقام في الهواء الطلق، «فمضخّمات الصوت» المسؤولة عن بث الأصوات الأكثر حدة، تكون عملاقة كي يتمكن المتفرجون الأكثر بُعداً عن المسرح من التمتع بأداء الفرقة الموسيقية.
ومع تخيل أن ثمة مكبرات قادرة على التسبب في صدمة دماغية لعملاء سريين موجودين على بُعد عشرات أو حتى مئات الأمتار. فإن مثل هذا السلاح الصوتي، إذا كان موجوداً، سيكون من الصعب جداً إخفاؤه، لا سيما في جدار غرفة الفندق. ولكن لا يمكن إنكار أن شيئاً ما قد حدث. ولا يزال المحققون الأمريكيون يبحثون في القضية، إلى جانب العلماء، ولكن حتى الوقت الراهن، لا أحد يعرف أصل «الهجمات»، ولا منفذيها.

التسميم الأذني الكيميائي

طُرحت فرضية ترتبط بالتسميم الكيميائي، فهناك مواد كيميائية شديدة التطاير تنتشر بسهولة في الهواء، يمكنها أن تتسرب إلى القنوات السمعية لتدمر الخلايا الدقيقة للأذن الداخلية. وهذا ما يسمى بالتسميم الأذني. أعراض هذا الأمر مشابهة جداً لتلك التي شعر بها الدبلوماسيون الأمريكيون، فهذا النوع من التسميم يظهر لدى التعامل مع بعض المذيبات، وهي المواد التي تعمل على تخفيف المنتجات المركزة مثل بعض المضادات الحيوية التي تسبب التسميم الأذني. فهل تناول الدبلوماسيون الأمريكيون المتضررون هذه المنتجات دون علمهم؟. معظم هذه الأدوية تحقن في الأوردة، والمذيبات نفسها لها رائحة كريهة. الحكومة الكوبية تؤكد أنه لا علاقة لها بشيء من هذا، والولايات المتحدة لا تتهمها حرفياً. ومن المؤكد أن الأمريكيين يريدون تسليط الضوء على هذه القصة، وما إذا كانت هناك إرادة فعلية بالإيذاء، وبالتالي اكتشاف السلاح المستخدم والمسؤولين عن الهجوم، وهو ما ينبغي أن يحدث ضجة كبيرة على النطاق الدولي في السنوات المقبلة إذا تم كشفه.

أسلحة غير فتاكة

وفقاً لبعض أعضاء الحكومة الأمريكية، الذين تحدثوا إلى الصحافة بشكل شخصي، على أن تبقى شخصياتهم مجهولة، يبدو أنه تم استخدام سلاح جديد، لديه القدرة على إحداث اضطراب في الأذن الداخلية بالموجات الصوتية، مع العلم أن هناك العديد من الأسلحة القادرة على التسبب في عدم الراحة السمعية وتُسمى ب«الأسلحة غير الفتاكة»؛ لأنها لا تقتل؛ بل تستخدم للسيطرة على الحشود الجماهيرية خلال تظاهرات الشوارع، أو لإجبارهم على إخلاء المباني. فمثلاً هناك جهاز مكبر صوت «إل أر أيه دي»، تنتجه إحدى الشركات، يبث أصواتاً سيئة للغاية، تشبه أصوات أجهزة الإنذار من الحريق. وتم تجهيز السفن السياحية الفاخرة أيضاً به لتخويف القراصنة المنتشرين في بعض البحار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"