هنا روح الحضارة

03:23 صباحا
قراءة 5 دقائق
يوسف أبولوز

حققت الإمارات، منذ قيام دولة الاتحاد في عام 1971، وعبر ما يقرب من نصف قرن، وما زالت، رؤية ثقافية محلية المفردات، وعربية العمق والامتداد، وعالمية الانفتاح والمشاركة والتكوين، وسوف تولد من هذه الرؤية خلال الثمانية والأربعين عاماً الماضية مؤسسات وكيانات وإدارات ثقافية تنسجم تماماً في عملها وأدائها مع المكوّنات الأخرى للدولة من إدارة، وسياسة، واقتصاد، وتنمية، وديبلوماسية، وتعليم، وتنمية، وإعمار، واستثمار، وهي مكوّنات جعلت من الإمارات في أقل من نصف قرن دولة نموذجية في الحكم، والمحافل الدولية السياسية والاقتصادية والثقافية، كما هي في الوقت نفسه دولة نموذجية في الخدمات، وتوفير فرص العمل، وتوفير بيئة أمن وأمان مستقرّة مكفولة بالقوانين والدستور والتشريعات والقضاء والحقوق، ومرة ثانية، وراء نموذجية الدولة ثمة رؤية ثقافية وضعها وحرص على رعايتها أولو الأمر والقيادة في الإمارات، ونقول وراء كل ذلك ثمة رؤية ثقافية مرنة متجدّدة استجابية ومستقبلية لأنه لا يمكن فصل السياسة والاستثمار والتنمية بخطوطها العريضة عن الثقافة، وعندما نقول «ثقافة»، ففي نسيج هذه الكلمة يكمن نسغ حيوي تماماً، وهو التعليم.. القطاع المهم في الإمارات، وهو قطاع اتحادي له موازنة ضخمة، وله برامج، وفكر وإدارة تقوم أيضاً على الرؤية الثقافية للإمارات.. وهي رؤية وطنية يشدّها إلى جوهرها الحضاري والمدني والإنساني مفهوم إماراتي محلي أصيل يتمثل في التعبير الوطني الإماراتي الذي يقترب من كونه مصطلحاً وهو «روح الاتحاد».

(1)

روح الاتحاد كما هي روح وطنية، معنوية، هي أيضاً روح ثقافية تعود جذورها إلى نحو سبعة آلاف عام قبل الميلاد في حضارات عدّة أصيلة لها آثارها وحفرياتها وإشاراتها الجيوثقافية من حضارة أم النار، وحضارة دلما، إلى الآثاريات المدهشة التي اكتشفت في دبي، إلى آثاريات مليحة في الشارقة إلى الآثاريات الجلفارية في رأس الخيمة وغيرها من معاينات أرضية في كل إمارات الدولة.
روح الاتحاد تتمثل، ثقافياً، أيضاً في روّاد تاريخيين بل هم أعلام وعالميون منذ مئات السنوات مثل الشاعر والبحّار والرحّالة والخرائطي والملّاح أحمد بن ماجد، ومثل الشاعر الماجدي بن ظاهر، وراشد الخضر، ومطاوعة التعليم غير النظامي في النصف الأول من القرن العشرين، فهؤلاء وغيرهم كثر من أعلام قدامى في الأدب، هم في الواقع جذور ثقافية تستعاد اليوم في الكثير من المناسبات، وبخاصة المناسبات الوطنية الإماراتية مثل أعياد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة.. النموذج السياسي الوحدوي الأرقى والأكثر تماسكاً في كل التجارب التي جرّبتها كيانات سياسية عربية، ولكنها سرعان ما تراجعت وتلاشت، لأنها ببساطة لا تمتلك الروح الثقافية التي تمثل، كما قلنا في روح الاتحاد.
إذاً، وبكلمة ثانية، عندما نتحدث عن قطاع الثقافة في الإمارات في مناسبة وطنية أو أي مناسبة إماراتية أخرى، يجب أن لا ننسى التاريخ، ولا ننسى الجغرافية أيضاً، فهناك حضارات قامت هنا في هذا المحيط الجغرافي، وهناك شعوب تركت تراثاً آثارياً ما زال إلى اليوم قيد الاكتشاف والقراءة، وهنا في هذا المحيط الجغرافي ذي البيئات الثلاث: الجبال، والصحراء، والبحر مرّت قوافل تجارية، ومرّت قوى استعمارية عديدة واجهها أهل البلاد بوطنية عالية وشجاعة.
عرفت الإمارات مبكراً الثقافة الشعبية التي هي وليدة البيئات الزراعية القديمة، وعرفت ثقافة البحر وتمثلاتها في الأدب تحديداً معروفة: الغوص، اللؤلؤ، النوخذة، وغيرها من مفردات، وعرفت ثقافة الجبال ومن تمثلاتها وفي الأدب أيضاً.. رؤوس الجبال وسكّانها الشجعان، وعرفت ثقافة الصحراء ومن تمثّلاتها الجماليات القائمة في امتدادات الرمل، والإنسان المتكيّف مع مداه الصحراوي بكل صبر ونبل وفروسية.

(2)

تبلور ظهور المؤسسات الثقافية في الإمارات عملياً، خلال النصف الأول من عقد الثمانينات في القرن الماضي، وفي كل عيد وطني، وكل مناسبة وطنية، كان يظهر لأهل البلاد والمقيمين وللعالم كلّه أن الرؤية الثقافية المنسجمة تماماً مع التنمية الوطنية في كل مجالاتها أخذت تراعي، أو تأخذ في عين الاعتبار طبيعة التركيبة السكانية في البلاد، فها هي في السبعينات والثمانينات نقلة اقتصادية أذهلت العالم كلّه بوتيرة تنموية فوق عالية، جذبت بالتالي آلاف العمال والمستثمرين والوافدين بل والباحثين عن فرص النجاح والإنتاج لنصل بالتالي إلى أكثر من مئتي جنسية تعيش وتعمل وتنتج وتتعلم وتقرأ في الإمارات، وبالتالي، أنت في بيئة ثقافية عناوينها بالضرورة: التعايش، قبول ثقافة الآخر على قاعدة الاحترام المتبادل من دون أي شعور بالفوقية أو الاستعلائية، وأيضاً، وفي ضوء الطبيعة السكانية المحلية، وفي ضوء الطبيعة الثقافية للإمارات، والتي قلنا إنها تنبع من رؤية وإدارة وفكر حرّ سيظهر في الإمارات عنوان آخر وهو الانفتاح على ثقافات الشعوب، والانفتاح أيضاً على الفكر الإنساني الإيجابي البنّاء لا الهدّام، والملتوي، والملتبس، فقد أصبحت في الإمارات وعبر الثمانية والأربعين عاماً مؤسسات ثقافية فاحصة لمنتجي ورموز الثقافة والفكر في العالم كلّه، وإلى جانب هذه الحيثيات، وبالضرورة سيظهر في الإمارات عنوان آخر وهو التسامح... هذا العنوان الذي تمثّل في حدث تاريخي فعلي في الثقافة السياسية، وفي الثقافة الأدبية والفكرية في الإمارات، وذلك بلقاء بابا الفاتيكان، وشيخ الأزهر في فبراير/‏ شباط في العام 2018، وصدر عن هذا اللقاء التاريخي، وثيقة تاريخية، دينية، أخلاقية، ثقافية هي وثيقة الأخوّة الإنسانية.
إذاً، التسامح في الإمارات، أو ثقافة التسامح هي ليست شعاراً أو يافطة أو جملة إعلامية كبيرة، بل إن ثقافة التسامح هي نتاج ثقافة تعايش أولاً، ثقافة التسامح والتي سيكون من تجلّياتها الدينية والإنسانية والثقافية إقامة بيت العائلة الإبراهيمية في جزيرة السعديات في العام 2022.. البيت الذي تلتقي وتتآخى في كنفه الديانات السماوية الثلاث.. هي نتاج نموّ ثقافي وأخلاقي ونفسي وتربوي في بنية المجتمع الإماراتي منذ العام 1971، وحتى اليوم.

(3)

استناداً، مرة ثانية وليست أخيرة إلى روح الاتحاد، وإلى الرؤية الثقافية الإماراتية التي تشكّل منها أو من خلالها ما يسمى القوّة الناعمة.. قوّة الديبلوماسية الثقافية الإماراتية.. استناداً إلى ذلك، وفي ضوء واقع مجتمعي تعددي تعايشي ظهرت في الإمارات قوانين وتشريعات قضائية تجرّم كل من يصدر عنه خطاب عنصري وسلوك كراهية وتمييز وعصبية مغلقة. هذا كله يتنافى على طول الخط مع ثقافة التسامح والتعايش الطبيعية في الإمارات، يتنافى تماماً مع الثوابت الأخلاقية والثقافية في بنية الدولة ومنها: لا طائفية، لا مذهبية، لا حزبية يؤخذ بها أو ينظر إليها بعين الاعتبار.. فقط المساواة، والمرونة، والعدالة.
ترفض الثقافة الإماراتية التي شكّلت هويتها الوطنية المحلية عبر الثمانية والأربعين عاماً.. التعصّب، والتطرّف، والعنف، كما ترفض الثقافة الإماراتية التسييس بمعناه التحريضي، النفعي، الانتهازي.. تسييس الدين، والثقافة، والفنون، وعندما ننظر وعلى سبيل المثال لا الحصر إلى ثلاثة معالم فنية عظيمة محترمة في الإمارات هي: متحف اللوفر في أبوظبي، وأوبرا دبي، وبينالي الشارقة.. نلاحظ أن جوهر هذه المعالم الثلاثة الراقية هو: الجمال، الإنسانية، التهذيب، الخلق، التذوّق، رفعة الإنسان وكماله بالفن.. بعيداً كلياً عن أي مضامين سياسية ضارّة.


استراتيجية


وازنت الرؤية الثقافية الإماراتية التي قامت على تخطيط وتحديث واستراتيجيات بين الجذر الشعبي والتراثي الأصيل، وبين المعاصرة والتحديث. الإمارات ليست جزيرة مغلقة معزولة عن العالم، بل هي العالم، وهي كذلك فعلاً لا قولاً فقط، وذلك عبر عنوان آخر ولكنه ليس الأخير وهو «التنوير» أو ثقافة التنوير، أو فكر التنوير، بعدما اكتملت دائرة التعليم، ودائرة التثقيف، أو أن هاتين الدائرتين «التعليم والثقافة» لا تكتملان بالمطلق، بل تتسعان، وتستوعبان دائماً الفكر الحيوي الجديد، وتستوعبان العنصر والحداثة والتحديث.
«التنوير» في الإمارات هو مطلب وسلوك أيضاً، يتوازى في ذلك مع عنوان نبيل وعظيم مثل التسامح، ويمكن القول هنا، إن التنويري هو بالضرورة متسامح، وإن المتسامح هو أيضاً بالضرورة تنويري.. والاثنان يكتملان بثقافة الحياة التي ترفع خطابها دولة الإمارات العربية المتحدة في عيدها الوطني العزيز، وفي كل أعيادها المجيدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"