وردة النسيان..حزينة

04:23 صباحا
قراءة 7 دقائق

** يوسف أبو لوز


في أحد نصوصه يقول محمد الماغوط: «.. حبّك كالإهانة لا يُنسى».. فإذا كانت الإهانة لا تُنسى فلها أكثر من وجه:.. الحرب التي تكسر شعباً وتهزم تاريخه وثقافته لا تُنسى. الخيانة الفردية والخيانة الوطنية لا تُنسيان. الغدر لا يُنسى، وعندما التفت يوليوس قيصر إلى صديقه ماركوس بروتس الذي اغتاله غدراً قال له قيصر.. «.. حتى أنت يا بروتس»، ونُسي الاثنان عبر أيّام التاريخ؛ القيصر وصديقه، لكن «حتى أنت يا بروتس» لم تُنس، وما أكثر النصوص القصيرة الصغيرة التي تأخذ هوية الحكمة والمثل وقد قالها شعراء وفلاسفة وزعماء سياسيون، التي لم تنس، فيما نُسي القائل، ولم يُنس القول.
الذي يُنسى والذي لا يُنسى، تماماً، على إيقاع الذي يأتي والذي لا يأتي.. قد يكون مدخلاً مناسباً للكتابة عن النسيان الذي يُحيل إلى شكل من أشكال «المحو» أو «الإزاحة»، أو «الشطب» أو «الغياب» أو «الاقتلاع»، الطرد، والنسيان عند الإسباني «خوان خوسيه مياس» أشبه ب «ماسورة» أو أنبوب موجود في المخّ.. يقول: «إلحاحات الفكر يبدو أنها تذهب، ولكنها دائماً ما ترجع إلى المخ بعدما تجتاز ماسورة ما نسمّيها النسيان..».

طرد اللغة

كيف يجري النسيان عند الإنسان؟، وهل تنسى الحيوانات؟، وهل ينسى النبات؟.. أسئلة يمتزج فيها العلم مع التخّيل مع التحليل المختبري الميداني ليس مكان الإجابة عنها هنا، ولكن إن كان من إجابات اجتهادية تماماً. فالنسيان، كما يبدو، فعل إرادي يقوم به الإنسان ويقرّره ويعمل عليه. إنه يقوم بشكل من أشكال طرد الصورة التي قرّر نسيانها، والصور ليست وحدها التي يقوم الإنسان بطردها مثل صورة رجل أو امرأة أو طاغية أو مشهد حريق، أو مشهد غرق، أو مشهد قتل، أو مشهد سرقة، أو مشهد خيانة،... وإلى آخره من صور مطرودة.. بل الكلام أيضاً يُنسى عندما يقرر الإنسان طرد كلمة أو عبارة أو جملة أو نصّ.
النسيان يأتي مقابله، إذاً، مفهوم الطرد أو فكرة الطرد.. طرد الكلام المهين وطرد اللغة المهينة. وفي أزمات الاستعماريات الغربية للوطن العربي تركت القوى الاستعمارية لغات استعمارية أيضاً. لغات مهيمنة أو مهينة، كانت ثقافة الاستعمار تعمل على نسيان اللغة العربية وثقافتها وهويتها الوطنية، لكن اللغات، بشكل خاص قد تنقرض ولكنها لا تنسى.
الشعر، أيضاً، يُطرد، أي ينسى، ولكن ليس على طريقة طرد اللغة المهيمنة أو اللغة المهينة، ففي الأثر الأدبي التراثي أن أبا نُواس قبل أن ينظم الشعر سأل: «خلف الأحمر» ليأذن له بذلك، وكان خلف الأحمر بذلك كما يبدو يشكل سلطة ثقافية آنذاك.. تأذن أو تمنع أو تسمح أو تطرد..، قال لأبي نواس: «.. لا آذن لك في عمل الشعر إلاّ أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة» وبالفعل غاب أبو نواس مدّة، وحفظها وأنشدها أمام خلف الأحمر، ولكن هذا الأخير لم يسمح له في نظم الشعر إلاّ بعد أن ينسى الألف مقطوعة تلك.

رمزية التمثال

في كتابه الروائي الساخر «الضحك والنسيان» يتحدث ميلان كونديرا التشيكي الأصل، والذي طرد لغته، وأخذ يكتب بالفرنسية، يتحدث عن الكيفية التي جرى بها قلب أو طرد كل شيء في عهد رئيس سمّاه «رئيس النسيان» اسمه «هوساك» الذي طرد 145 مؤرخاً تشيكياً من الجامعات والمعاهد العلمية، ويقول كونديرا إنه في العام 1971 زاره أحد هؤلاء المؤرخين وهو «ميلان هوبل» الذي كان يقول.. «.. لتصفية الشعوب، يُشرع بتخريب ذاكرتها وتدمير كتبها وثقافتها وتاريخها، وينبري آخرون لتأليف كتب أخرى، وإيجاد ثقافة أخرى وابتداع تاريخ آخر. بعد هذا يبدأ الشعب شيئاً فشيئاً في نسيان مَنْ هو وكيف كان، فينساه العالم من حوله بشكل أسرع..».
وبالفعل، من ينسى ثقافته ولغته وتاريخه وتراثه، ينساه العالم بكل بساطة، وهكذا، وعلى سبيل المثال، تتمثل الذاكرة أحياناً في النصب والتماثيل، في التماثيل تحديداً التي تقيمها الشعوب أو الدول لكتّابها وزعمائها وفنّانيها المبدعين الكبار.
إن رمزية التمثال تتعدّى من يمثّله شخصياً من البشر، إلى رمزية أخرى هي الذاكرة التي تحارب النسيان. إن التمثال هنا هو ضد النسيان. ضد نسيان بوشكين وليرمنتوف والمتنبي وحافظ شيرازي، وأحمد عرابي، وأم كلثوم، وغيرهم المئات من الرموز التي رموز التمثال مهما كانت مادّته سواءً من الذهب أو من البرونز أو الصلصال أو الحديد. فلا يهم المادّة، المهم هنا هو عدم النسيان.
نعود قليلاً إلى كونديرا الذي يُعطي النسيان أكثر من صفة منها مثلاً «صحراء النسيان المنظّم» وفي مكان آخر له صفة أخرى: «ورود النسيان الحزينة»، ولكن كونديرا هنا لا يستخدم لغة شعرية إنشائية كما يبدو من لغة هاتين الصفتين، ولكن وراء هذا التوصيف هناك دائماً ما هو سياسي وثقافي وفكري، ولنأخذ مرة ثانية رمزية التمثال.. يتحدث كونديرا عن التحوّلات السياسية والإيديولوجية في بلاده تشيكوسلوفاكيا عندما خرّبها النظام الشيوعي وجعل الشعب التشيكي مجبراً على «النسيان» أو مجبراً على «التذكر»، وجهان لعملة واحدة.. أو إيديولوجيتان لثقافة واحدة وتاريخ واحد.. يقول.. «.. الشوارع التي لا تعرف أسماءَها تطوف فيها أطياف النصب المقلوبة. النصب التي قلبها الإصلاح التشيكي، ثم قلبها الإصلاح المضاد ثم قلبتها الجمهورية التشيكوسلوفاكية، ثم قلبها الشيوعيون، فحتى تماثيل ستالين قُلبت، إذ عوّضتها في بوهيميا اليوم الآلاف من تماثيل لينين، وهي تنمو هناك كما ينمو العشب في الخرائب، وكما تنبت ورود النسيان الحزينة..».

الصور الفوتوغرافية

إلى جانب التمثال، تشكّل الصورة الفوتوغرافية مضاداً فنياً مادّياً للنسيان، صورة العائلة المثبّتة على الجدار، صورة الزفاف، وأحياناً، لا نرى صورة لرب الأسرة «الأب» معلّقة على الحائط، ولكنه ما أن يموت حتى يسارع أبناؤه إلى عمل برواز ثمين لصورته وتعليقها.. لكي لا ينسى، أو على الأقل، ليظل ماثلاً في الذاكرة.
الصورة الفوتوغرافية أيضاً وثيقة لتثبيت التذكر، واقتلاع أو طرد النسيان، ففي الحرب الفيتنامية الأمريكية في سبعينات القرن العشرين التقط المصور كيم فوك صورة لطفلة فيتنامية انفجرت بالقرب منها قنبلة حارقة، فأخذت تجري صوب الكاميرا عارية وهي تصرخ: «حارق، حارق»، وإلى اليوم تعيش هذه الصورة ليس في ذاكرة الفيتناميين فقط، بل وأيضاً تعيش في ذاكرة العالم كله.
لا أحد يعرف اسم الطيار الذي ضرب القرية الفيتنامية بالنابالم، أو على الأقل هو منسي تماماً اليوم، ببساطة لأنه مفرد منسيّ خارج الصورة، =خارج إطار صورة الطفلة= التي أصبحت صورتها إهانة لا تُنسى، إهانة للحرب، وإهانة لسلاح الجو الأمريكي نفسه الذي إذا تذكّر جنرالاته وضبّاطه انتصارهم في الجوّ أو غرورهم في الجوّ، فإن هؤلاء الجنرالات والضباط لن ينسوا وحشية سلاحهم على الأرض.

الشاشة البيضاء

هل استخدم الإنسان «النسيان» بوصفه عقاباً أو حتى تعذيباً؟.. نعم أشرنا إلى ذلك في وسط هذه المادة، فالشعوب التي تدافع عن ذاكرتها وتاريخها وثقافتها الشعبية بشكل خاص تتعرض على يد دول استعمارية مهيمنة إلى ما سمّاه كونديرا «النسيان المنظم»، وهذا النوع من النسيان وراءه علماء اجتماع وعلماء نفس وعقول داهية تصنع ثقافات بديلة هي في الغالب ثقافات استهلاكية إلهائية، ومن شأن هذه الثقافات الإلهائية أن تحل محل الثقافات الأصل، ومع التكرار وبالتدريج، يجري نسيان هذه الثقافات الأصل، ومن مكوّناتها العادات والتقاليد، والغناء الشعبي، والموسيقى الشعبية وغير ذلك من مكونات مادية ومعنوية.. ولكن هل يحقق النسيان المنظم أهدافه في كل توظيف علمي وثقافي ونفسي له ؟.. بالطبع لا.. لا يحقق أهدافه إلا في حدود بسيطة جداً، والشعوب الأصيلة ذات الإرادات العظيمة تنتبه فجأة للمطبخ الثقافي الذي يشتغل فيه هؤلاء الدهاة، ويهدمونه على مَنْ فيه..
إلى اليوم لم يفلح النسيان المنظم في تذويب ثقافة وشعر وفنون وتراث الهنود الحمر، وإلى اليوم أيضاً لم يفلح النسيان المنظم في محو ثقافة وتراثيات وفولكلور ومخيّلة الفلسطينيين الذين يذكّرهم المخيم الفلسطيني ببلادهم منذ أكثر من سبعين عاماً وحتى اليوم.
.. ولكن، ماذا عن النسيان بوصفه عقاباً بشيء ماكر ولعين اسمه «الشاشة البيضاء»؟
مخترعو الشاشة البيضاء هم الألمان في عهد الفكر النازي الذي يُنسى الآن بكل رموزه ويقع هذا العقاب على السجناء حيث يؤخذون من عنابرهم يومياً وفي ساعة محددة من النهار، ويؤمرون بالجلوس على الأرض، وأمامهم شاشة بيضاء كبيرة عليهم أن يحدّقوا فيها بلا كلام، الكلام ممنوع تماماً في ما بينهم، وبين السجانين، فقط التحديق الصامت في الشاشة.
تنفذ هذه الجلسة على مدى شهرين أو أكثر وبانتظام، وبعد ذلك يلاحظ السجناء أنهم نسوا تماماً كل ما يتعلق بحيواتهم السابقة وأنه لا ذاكرة لهم على الإطلاق.
ولنسأل.. ما الذي تفعله الشاشة البيضاء؟
علمياً وبدقة شخصياً لا أعرف، ولكن يبدو أن هذه الشاشة البيضاء ومع تكرار التحديق بها تمحو ما يمكن أن يسمى أرشيف الإنسان المملوء بالصور والذكريات والحكايات والضحك، ليتحوّل الكائن البشري بعد ذلك إلى شاشة بيضاء تماماً.. مفرّغ كلياً من تاريخه وكينونته الآدمية.

درس بول ريكور

عاش الفيلسوف الفرنسي بول ريكور من 1913 إلى 2005، تقول سيرته إنه أسر في الحرب العالمية الثانية 1940، وأمضى خمس سنوات في السجن.
ريكور خصص فصلاً كاملاً عن النسيان في كتابه «التاريخ، الذاكرة، النسيان» ومن الإجحاف ضغط هذا الكتاب الذي يتألف من 700 صفحة من القطع الكبير في بضع كلمات، ولكن يربط ريكور بين النسيان والغفران.
هل تنسى البشرية ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية فتنسى وتغفر؟، هل ينسى الأرمن مذابحهم على يد الأتراك، ويغفرون؟، هل ينسى الفلسطيني ذبحه على الهوية في تل الزعتر وفي صبرا وشاتيلا ويغفر؟ هل ينسى الهندي الأحمر حذاء الكاوبوي الثقيل على رقبته ويغفر؟.. واللائحة تطول.. بين النسيان والغفران.
لنقرأ درس بول ريكور على حدة، الذي تمتزج فيه الفلسفة بالعلم بالتاريخ.. ولننس دائماً.. لكي نتذكر، أو لنتذكر لكي لا ننسى.


تعليم سري

لكي لا تُنسى لغات بعض الأقليات التي اندمجت في بعض البلدان العربية وثقافتها وشعوبها مثل الكرد والشركس، تقوم هذه الأقليات بتعليم أبنائها اللغة الأصل في البيت، أي أنه تعليم يجري في ما يشبه السرّ بين أفراد الأسرة الواحدة لكي تبقى اللغة على قيد الحياة، فلا تموت، أو لا تُنسى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"