“أحمد حسنين باشا” أسرار وحكايات

كتب مقدمته محمد حسنين هيكل
13:41 مساء
قراءة 6 دقائق

بتقديم من الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل تصدر طبعة جديدة عن دار الشروق من كتاب الصحافي الكبير محمد التابعي، عن أحمد حسنين باشا، الذي يتعرض فيه لحياته الخاصة والعامة، كاشفا عن جانب كبير من أسرار الساسة والسياسة المصرية.

تبدأ مقدمة هيكل بما يشبه الاعتذار عن درجة من النسيان لاسم التابعي وقيمته، والتي لحقت بذاكرة أجيال جديدة من القراء، وبينما يلتمس هيكل الأعذار لهذه الأجيال، يسرد أسباب الظلم التي وقعت على التابعي، ومنها أن بعض تلاميذ المدرسة الصحافية للتابعي آثروا السكوت عن دوره أو القفز عليه، كما أن كثيرين أخذوا عما كتب التابعي، دون أن ينسبوا له، رغبة في إظهار أمرهم.

يقول هيكل: إنني لا أقدم كتاباً للأستاذ التابعي وإنما أتقدم إليه باعتذار وذلك بالفعل شعوري إزاء رجل أعتبره من أساتذتي الكبار وأستاذا لكثيرين غيري من نفس الجيل الذي خطا إلى عالم الصحافة العربية، أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد مع مطالع الأربعينات من القرن العشرين.

وكان هيكل قد عمل مع التابعي وقت أن كان رئيساً لتحرير مجلة آخر ساعة، بتوصية من رئيس تحرير الاجيبشيان جازيت ليتتلمذ على يدي التابعي وهو صاحب مدرسة في علمه أو فنه، إذ وصل تأثيره في مجاله إلى درجة يختلف بها ما بعده عما قبله، بمعنى أنه كما يقول هيكل إذا حذف دوره من المجرى العام للتطور انقطع الخط على فجوة واسعة، ويوضح هيكل أن التابعي أضاف شيئا آخر، إذ صاغ أسلوباً مختلفاً في التشاور الصحافي، وهذا الاختلاف الذي أحدثه التابعي هو نعومة الكلمة وانسياب الكلام، فكانت الألفاظ تبدو على نحو ما في حالة عشق مع كلمة التابعي، فما إن يضع سن القلم على صفحة الورق حتى تذوب المعاني والصور لينة على السطور، وبالنسبة للسياق فإن أي قارئ لكتابات التابعي سوف تنكشف له قاعدة مؤداها أن القصة في التفاصيل.

ويقول هيكل: لقد حاولت وحاولنا جميعاً جيلاً بأكمله أن نتعلم من التابعي وقلت إنني كنت أسعدهم حظاً ربما لأني آخر من تتلمذ على يديه، والسبب غالباً أنني وصلت إلى صحبته قرب آخر النهار في مرحلة من الحياة لها خواصها مع الناس وفي الطبيعة، وهي مرحلة ما بين الأصيل والغروب، وعندما حضرت الأصيل في حياة محمد التابعي، فقد لفتني الوهج المهني والسياسي والاجتماعي المحيط بجوانبها، وكان ذلك حظي ثم كان لسوء الحظ أنني حضرت نزول الغروب أيضا حين قرر محمد التابعي أن يبيع آخر ساعة إلى دار أخبار اليوم وأصحابها الأستاذين مصطفى وعلي أمين، وكان التابعي قد باع من قبل حصته في جريدة المصري إلى محمود أبو الفتوح وكريم ثابت، ويذكر هيكل أن أسباب ذلك أن التابعي رجل فنان، لا يعرف قواعد الحساب أو يتجاهلها، يظن أن مواهبه فوقها، وراحت ديونه تضغط على دخله بشدة، وتزداد وطأتها كل يوم. ويؤكد هيكل أن صفحات كتاب التابعي تعد صورة من أحوال التوهج الاجتماعي له، وفي الوقت نفسه شهادة على التكاليف الباهظة لذلك التوهج، ومع أن موضوع الكتاب ملامح من القصة الحقيقية للملك فاروق ومأساته التي جعلت منه كما قال هيكل من ضحايا التاريخ، قبل أن يكون من مذنبيه.

وتظهر صفحات الكتاب أيضاً لمحات من حياة محمد التابعي، وكذلك مأساته وتكشف أيضاً قصة صعود الصحافة إلى أن وصلت إلى وصف صاحبة الجلالة ولكن المشكلة كما يوضح هيكل أن التابعي كان ظاهرة مستجدة في الصحافة العربية، على العلاقة بين الصحافي والأمير، ولذلك كان احتمال الخلط وارداً حيث كتب عن الملك فاروق ونازلي وأحمد حسنين، وغيرهم من موقع المعايشة، وفي بعض المشاهد كان هو نفسه جزءاً من الصورة، وكان المأزق في تجربة التابعي انه وهو يعايش الأمراء تصور انه يجاري الأمراء بظن أنه ليس أقل منهم.

وفي المقدمة التي كتبها التابعي نفسه لكتاب عن أحمد حسنين باشا، نقرأ ما يشبه الشهادة على تجربة امتدت إلى نحو ثلاثين عاماً من العمل في بلاط صاحبة الجلالة، عرف خلالها عشرات وعشرات من الزعماء والساسة، وربطته ببعضهم أواصر الصداقة والثقة، لدرجة أن أكثرهم أفضى إليه بأسرار كثيرة، وعلى هذا النحو كان لدى التابعي مأزق، فعلى حد قوله في الإجابة عن سؤال: ما الحد الفاصل بين ما يجوز نشره وما لا يجوز نشره؟ ويجيب عن ذلك قائلا: إن رواية الكل قد تنفع المجموع وتؤذي الفرد، رواية البعض قد لا تفيد المجموع ولا تؤذي الفرد، أي الزعيم المروي عنه، وإذن ما الفائدة وما الغاية من نشر رواية ناقصة أو مبتورة؟ وفي نشر الرواية كلها فضيحة أو خيانة للأمانة. ويذكر التابعي أنه على سبيل المثال التقى ملك الأفغان أمان الله مرتين في سويسرا، وكان الرجل كسير الخاطر محطم الآمال، كان يمشي تحت المطر، يتسكع ليقتل الوقت، وكتب عنه التابعي مرتين، وروى ما دار بينهما، إلا جزءا خاصا بزوجته السابقة الملكة ثريا، لأنه أي التابعي لا يستطيع أن ينسى أنه إنسان قبل أن يكون صحافياً.

وربما كان ذلك مدخلاً ليتحدث التابعي عن الملك فاروق الذي يراه طاغية، ومع ذلك لا يستطيع أن يروي عنه كل ما يعرفه، مؤكداً أنه قاوم طغيانه، وحاربه قدر ما يستطيع وهو ملك وحاكم بأمره، فكتب عنه مقالا عنوانه يحيا الظلم في آخر ساعة عدد 11 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1950.

ولم يذكر التابعي في مقالاته عن فاروق أنه الملك بكى ذات يوم في صيف 1937 وكان يومئذ لم تفسده الدنيا، بكى كالطفل الصغير حتى بلل الدمع خديه، ولم يكتب التابعي التفاصيل لأن فاروق بكى كإنسان لا كملك، ولأن التابعي لا يستطيع أن ينسى دائما أنه أيضا إنسان.

وهو المبرر ذاته الذي جعله لا يروي كل ما عرفه وكل ما سمعه من صديقه أحمد حسنين باشا، فللصداقة حقوق وعليها واجبات وهذا هو الصراع بين الصحافي والأمانة الصحافية، وبينه وبين سرية المهنة، ثم الصراع بين الصحافي والإنساني.

ينقسم كتاب التابعي عن أحمد حسنين باشا إلى جزءين الأول منه في حياته الخاصة، والثاني يتناول حياته العامة، وفي الحالين كان الرجل موضوع خلاف حتى إن التابعي يتساءل: هل هو بطل ومصري وطني مخلص يقدم مصلحة بلاده على كل ما عداها أم هو خائن وصنيعة للإنجليز؟ هل هو السبب المباشر في فساد الحكم والملك فاروق؟ وفساد الأسرة المالكة والفضائح التي وقعت في السنوات السابقة على قيام الثورة؟

هذه الأسئلة يجيب عنها التابعي في كتابه، بعد أن يكشف لنا أصول حسنين باشا، فهو ابن لشيخ أزهري، وفي الوقت ذاته خريج أكسفورد الذي صاهر الأسرة المالكة، وكان في وقت ما بطل مصر في المبارزة بالسيف ونازل أبطال أوروبا، وانتصر على كثيرين منهم، وحاول في يوم ما أن يكون أول مصري يقود طائرته الخاصة بمفرده من أوروبا إلى مصر وسقطت به الطائرة مرتين في فرنسا وإيطاليا، ونجا من الموت في المرتين. وجاب حسنين مجاهل الصحراء الغربية، وعاش أسابيع فيها ثم قام بعد ذلك بمفرده، برحلة ثانية في جوف الصحراء واكتشف واحة الكفرة، وكان لاكتشافه دوي كبير في جميع أنحاء العالم واجتمعت الجمعية الجغرافية الملكية في لندن ومنحته ميداليتها الذهبية وانهالت عليه الأوسمة والنياشين من مختلف الدول تقديرا لهذا الاكتشاف.

وبعد حياة حافلة بالحروب والصراعات التي خاضها أحمد حسنين باشا، جاء يوم الثلاثاء 19 فبراير/ شباط وكان مدعواً لتناول الغداء عند أسرة صديق له ولكن تراكم الأعمال أبقاه في مكتبه بقصر عابدين إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، ورأى أنه تأخر كثيراً عن الموعد فاعتذر لأصحاب الدعوة، واستقل سيارته عائداً إلى داره بالدقي، وبينما كان يجتاز كوبري قصر النيل أقبلت سيارة لوري بريطانية، وصدمت سيارة حسنين باشا من الخلف، ومصادفة كانت سيارة وزير الزراعة تمر، فحمله إلى المستشفى وهناك أسلم الروح فنقلوه إلى داره.

وبعد وفاته بأسبوعين أو ثلاثة ذهب فاروق يزور أمه الملكة نازلي في قصرها بالدقي، وفي قاعة القصر الكبرى تسمرت قدماه عند الباب فقد رأى أمامه صورة لأحمد حسنين بالحجم الطبيعي فأشار إلى الصورة قائلاً خلاص مات فانتفضت الملكة الأم قائلة: بكرة تشوف راح يجري لك إيه بعد موت حسنين، إلى أن وقع وثيقة التنازل عن العرش، ولا بد أنه كما يقول التابعي تذكر مقولة أمه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"