“تفكيك الديمقراطية”أزمة بين الواقع والتطبيق

يحمل العديد من التناقضات والإشكاليات
13:09 مساء
قراءة 6 دقائق

تعد إشكالية التحيز أزمة قائمة في الفكر المعاصر عموماً والفكر الغربي بالأخص، وهذه الأزمة تحوّلت الى فزّاعة أو عدو مفترض وهمي أو فعلي تحدد مهمته في تبرير المشكلات والتجاوزات المنطقية والعقلانية والمواقف السلبية لبعض الدول في القضايا الدولية، وتلعب الآلة الاعلامية الغربية وأجهزتها المؤسساتية دوراً مركزاً في طرح الفكرة الأحادية المصطنعة للآخر، بعيداً عن الموضوعية والحياد العلمي، أو هكذا الفكرة الديمقراطية كوسيلة محايدة مفترضة.

د. وفيق حبيب يرصد في كتابه تفكيك الديمقراطية العديد من التناقضات والإشكاليات القائمة بروح الباحث الدقيق الموضوعي الذي يضع الرؤية الواقعية كما هي بلا مساحيق أو تزييف للوعي. وفي طرحه الأول استعمار صناعة محلية يقول: إن وقائع مسيرة الأمة تكشف عن طوفان من الأفكار الغازية التي تدفقت على البلاد خلال القرن التاسع عشر، في نهاية دفق الأفكار جاءت قوات الاحتلال، وعندما كنا نواجه الاحتلال كنا نواجه عملاءه وبعد خروج الاحتلال اختفى العملاء وبقي الوكلاء، فالأفكار التي استعمرت عقول القلة ظلت تجد أرضية لها من بين أبناء الوطن حتى كوّنت جماعة وكلاء الغرب.

ونجد أن بعض ما نلحظه من الدفاع المستميت لقيم الحرية والتسامح والديمقراطية، مجرد شعار مرفوع للاستعباد والنفي وأصبحت هناك قوى يلزم استبعادها والقضاء عليها لأنها غير ديمقراطية، وهناك قوى أخرى تدعو إلى الديمقراطية وتصر النخب على أنها تدعي الديمقراطية ولكنها سيئة النية لذلك يلزم استبعادها. وهكذا اصبحت الديمقراطية تقاس بالنيات وأصبح من يقبلها على نية خالصة مؤمنا ومن يقبلها عن نية غير خالصة كافراً.

ويناقش د. وفيق في هذا الكتاب قضية الديمقراطية في الإسلام، من منظور الآخر ورؤيته التي هي رؤية جاهزة من قبل العلمانيين، الذين يضعون المعيار لمفهوم الديمقراطية واحتكار تفسيرها.

شرط الديمقراطية كقاعدة للعمل السياسي دخول الى معيار تملكه القوى العلمانية، فأصبحت هذه القوى هي المسيطرة على المفهوم وهي الداعية له، وعلى هذا الأساس أصبحت هناك فئة محددة تملك أن تقرر الديمقراطية القوى الأخرى من عدمها. ويناقش في فصل صُنّاع الفتنة خطورة وسائل الاعلام وتأثيرها في تشكيل الوعي من خلال هذه الآلة الاعلامية الهائلة التي استطاعت أن تسلب عقول ووعي الكثير من الناس، بما تمثله الكلمة من سحر واعادة تقليب الحقائق وتزييفها وخلال عملية صناعة الوعي، تقدم المدركات سابقة التجهيز من خلال لعبة معلوماتية شديدة الخطورة، فعصر المعلومات كما يُسمى ليس عصراً لحرية الحصول على المعلومات الحقيقية، بل هو عصر صناعة المعلومات، فالبيانات والأحداث والوقائع المتاحة أمام المواطن العادي، ليست مواد خاماً أولية بل هي متحيزة يتم صناعتها حتى تعطي انطباعات دون غيرها. ويطرح المؤلف في هذا الكتاب مشكلة ربط الارهاب بالحضارة الاسلامية وتصوير الإسلام بأنه دين يدعو الى العنف، ويشجع الارهاب وغيرها من الصفات، التي أصبحت تهماً جاهزة لا تحتاج الى نقاش واسع الواقع ان الاعلام الغربي هو صاحب المبادرة في ذلك، فقد صور الاعلام الغربي الاسلام والمسلمين والحضارة الاسلامية باعتبارها عناصر مكونة للعنف فتم الربط بين الاسلام والارهاب لتتكون اسطورة المسلم صاحب اللحية والقنبلة والسلاح، حتى يتحول هذا الارهابي الى رمز يتم تجسيده بوصفه خطراً على الغرب والحضارة الغربية، ومن ثم الحضارة الإنسانية جمعاء. ويصف المؤلف تلك الحملة الرهيبة عبر الآلة الإعلامية الضخمة الغربية على الحضارة الإسلامية الحقيقة أن ما يحدث هو حرب صليبية جديدة، لكن ليس تحت شعارات الصليب بل تحت شعارات العلمانية. فوسائل الإعلام الغربي ومن خلال تشويهها لكل ما هو إسلامي وعربي تضرب بذلك النموذج الحضاري الوسطي، بوصفه نموذجاً للحضارة الغربية، لتعيد بذلك تصورات الخوف تجاه المنطقتين العربية والإسلامية، وهزائم الصليبيين في الضمير الغربي وتشعل مخاوفهم التاريخية من الإمبراطورية العثمانية، وبذلك يتم تهيئة المناخ بين الشعوب الغربية لأي مواجهة محتملة مع العالمين العربي والإسلامي. يناقش المؤلف في فصل تجفيف المنابع، قضية التبعية الفكرية التي تطرح كحل لإشكالية تأخرنا وتراجعنا الحضاري من خلال النخب المتغربة التي أصبحت المسوقة لحداثة الغرب وفكره ونافية في الوقت نفسه قيم حضارتنا العربية الإسلامية وكلاء الغرب طرحوا مشروع الحداثة من خلال التركيز على مفهوم تاريخي ضمني وهو الانقطاع، فالتاريخ الماضي كما صُوّر ظلامي متدهور ولذلك علينا أن نخرج منه وننفصل عنه، حتى ندخل في الحداثة والمعاصرة.

وأصبحت الأزمة أزمات متلاحقة وإشكالية تحتاج إلى بحث يعيد إلى النفس صفاءها الذاتي بعيداً عن التصورات غير الدقيقة أو على الأصح التوهمات بالعجز والتراجع الذي أصبح مسدوداً الواقع أننا نعاني بالفعل من عجز الإرادة لأسباب عديدة، مما جعلنا نفتقد للأساسيات الأولية المكونة للإرادة. فحتى تملك إرادة لتحقيق أهداف عظمى عليك أولاً أن تملك الثقة بالنفس. فعندما يتصور شخص ما أنه غير قادر على مواجهة التحديات فإنه بالتالي سوف يستسلم لتلك التحديات، وما ينطبق على الإنسان نفسه ينطبق على الشعوب. فالشعوب تحتاج لشرط القبول أي أن تتقبل ذاتها بكل ما فيها، ثم تكتشف جوانب الذات الحضارية فتعرف مكامن القوة ومكامن الضعف. ومن خلال الثقة بالنفس يتحقق للشعب ثقته في قدرته على تحقيق إيجابياته على أرض الواقع وأيضاً قدرته على تجاوز تأثير سلبياته. ومن هنا تتكون إرادة الأمة المحققة للنهضة اعتماداً على عنصرين: عنصر الرؤى العقلانية الكاشفة لإنسان هذه الأمة دون مديح أو ذم، وعنصر الدافع الوجداني المحقق للثقة والرغبة والمشكل للدافع والحماس، الذي يجعل الجهد متكاملاً مع الرؤية العقلانية ومحققاً لإنهاض كوامن التميز داخل الأمة.

لكن الأمر لم يكن بمثل هذه الرغبة وتلك الكوامن الذاتية التي من المفترض أن تكون كذلك وتحولت إلى ما يشبه الإبادة الحضارية للآخر كما يقول المؤلف واستئصال فكره وتبديد خصوصيته تحت مسميات عصرية وحداثية الكوكبة والعولمة والليبرالية الجديدة وغيرها من المسميات. ويقول تلك هي منظومة الإبادة تبررها المصالح وفرض الهيمنة وتغذيها عنصرية الغرب. ومن هذه المنظومة تخرج فكرة الاستحلال جلية في وجدان الغرب لأن عمليات الإبادة بدرجاتها المختلفة تتم من خلال مبررات تستحل الآخر وتصور دمه أو عقله أو دينه بأنه مستباح لأنه غريب أو متخلف أو معاد أو عدو للسامية. ومن ثم يتم الإتيان بإنسان آخر جديد مودرن يتم تنميطه بوصفه متلقياً سلبياً وصفحة بيضاء ومادة قابلة للمعالجة مما يسمح بفرض قيم ومبادئ ومدرجات على أي إنسان، فتتم له عملية غسل مخ ثم يعاد تنميطه أي يوضع له برنامج جديد وكأنه حاسب آلي مما يسمح بالسيطرة عليه.

ويطرح المؤلف في الحداثة.. موت أمة مشكلة الهوية والخصوصية الذاتية وهجمة قيم السوق والحداثة بوصفها نموذجاً لحياة الغرب وفكره ومع سقوط فاعلية القيم والمبادئ والسمات الأساسية والأصلية للأمة، وتحلل نظامها السائد المعبر عنها، نتوقع أن تظهر السمات المتنحية على السطح، وتصبح فاعلة ومؤثرة تعبيراً عن عدم انتظام الأمة داخل وعائها الأساسي، وخروجها عن نمطها الفاعل. ومع ظهور السمات المتنحية رغم استمرار وجود السمات السائدة تدخل الأمة مرحلة تفكك وانهيار. فالقيم القادرة على تنظيم حياة الأمة لم تعد مؤثرة وحاكمة، وإن ظلت شائعة. أما القيم المتنحية، فيصبح ظهورها واحتمال وصولها إلى قدر كبير من السيطرة على الأمة، أمراً شديد الأهمية والدلالة تاريخياً. ومع هذا اللهاث الكبير الذي يقوم به وكلاء الغرب لفرض مثل هذه القيم وتلميعها بوصفها معبرة عن حداثة الغرب أو عالمية الحضارة كما يقولون إلا أن المؤلف يرى أن القيم الوافدة كانت وما زالت قيم أقلية، ولم تتحول إلى قيم أغلبية. وهنا كما يقول نرصد الصخرة التي تتحطم عليها محاولات التغريب.

وينتقد المؤلف في العنف المستتر، قضية العنف والعنف المضاد في واقعنا الراهن بدلاً من التعايش وفق التعدد الثقافي والفكري وقيم الاعتدال والتسامح، فالعلماني المعتدل يؤكد مناصرته للإسلام الصحيح، والإسلامي المعتدل يؤكد تأييده للديمقراطية فيما لا يخالف الإسلام. الاعتدال هنا يرفع شعاراً يعبر من خلاله عن التزامه بقواعد اللعبة السياسية وشروط القيم الموروثة، لكن حقيقة الصراع كما يقول المؤلف تتجاوز ذلك لأن شعار الإسلام لن يجعل العلماني منتمياً للحضارة العربية الإسلامية وشعار الديمقراطية لن يؤدي إلى إلحاق الإسلامي بالمرجعية الغربية، والحل الذي يراه المؤلف عادلاً ومقبولاً، هو أن يكون الطرفان مستعدين للرؤى المعتدلة بألا نلقي بظلال الشك حولها، أي نؤسس مناخ الاعتدال أولاً ضد كل عنف وكل تطرف، ونسمح بأفضل فرص ممكنة للحوار بين قوى الاعتدال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"