حفظ السر فضيلة

مكارم الأخلاق
03:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. رشاد سالم *

من الأمور التي لها أثرها في تماسك الأمة وحفظ كيانها حفظ السر، وقدوتنا في ذلك بيت النبوة الذي يعلّمنا أدب حفظ السر.
وتروي أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: إنا كنا أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، عنده جميعاً لما تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة، رضي الله عنها، إلى رسول الله تمشي، ولا والله ما تخفى مشيتها عن مشية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها. قال: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم سارّها فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارّها الثانية فإذا هي تضحك.
فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك، رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله سألتها عما سارك. قالت: «ما كنت لأفشى على رسول الله سره»، فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي من حق، لما أخبرتني، قالت: «أما الآن. نعم. فأخبرتني». قالت: «أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وأنه قد عارضني هذا العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله، واصبري، فإني نعم السلف أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة الأمة».
ويروى أن معاوية أسرّ إلى الوليد بن عتبة حديثاً فقال لأبيه: «يا أبت إن أمير المؤمنين أسرّ إلي حديثاً وما أراه يطوي عنك ما بسطه إلى غيرك، قال: فلا تحدثني به، فإن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، قال: فقلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل، وبين ابنه، فقال: لا والله يا بني، ولكن أحب ألا تزلف لسانك بأحاديث السر، قال فأتيت معاوية فأخبرته، فقال: يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ، فإفشاء السر خيانة، وهو حرام إذا كان فيه أضرار، ولؤم إن لم يكن فيه أضرار».
ومن الوصايا قول عباس لابنه عبد الله، رضي الله عنهما: «إني أرى هذا الرجل، يعني عمر، رضي الله عنه، يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتبن عنده أحداً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة». قال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير لي من ألف.
إن حفظ السر من أجمل الخلائق والسجايا التي يتحلى بها الإنسان، رجلاً أو امرأة، ذلك أن حفظ السر يدل على نضج الشخصية، ومتانة الخلق، ورزانة الملك، ورجاحة العقل.
ومن أبرز الشواهد تحلي الصحابة، رضوان الله عليهم، بفضيلة حفظ السر، وإصرارهم على التمسك بهذه الفضيلة، موقف أبي بكر، وعثمان من عمر، رضي الله عنهم جميعاً، حين عرض الزواج من ابنته حفصة بعد أن توفي عنها زوجها، وكتمانهما سر رسول الله، صلى الله عليه وسلم عليه.
ويروي الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين تأيمت بنته حفصة، قال: لقيت عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، رضي الله عنه، فلم يرجع إلي شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي، ثم خطبها النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه.
فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت (غضبت) علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أنني كنت علمت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي، صلى الله عليه وسلم، لقبلتها. (فتح الباري).
ولم تقتصر فضيلة حفظ السر على الرجال من السلف، بل شملت النساء والأطفال الذي عبوا من هدي الإسلام، واستنارت قلوبهم وعقولهم بنوره الوضاء.
ويروي الإمام أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: «أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حسبك ؟ فقلت: بعثني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تخبرن بسر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحداً. قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت». (صحيح مسلم).
وإذا كان إفشاء الأسرار من أسوأ العادات التي يبتلى بها الإنسان، فإن أبشع أنواع إفشاء الأسرار ما كان من متعلقات الحياة الزوجية، وإن المبتلى بهذه العادة القبيحة لمن شرار الناس منزلة يوم القيامة، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها». رواه مسلم.

* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"