المهدية.. المدينـــة الحصينة

تقع على شاطئ البحر المتوسط
04:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

حملت الحضارة الإسلامية قيماً إنسانية عظيمة، ارتقت بها عن مثيلتها من الحضارات المعاصرة لها، فلم يكن دخول المسلمين للبلدان التي فتحوها للاستيلاء على خيراتها واستعمارها، بل ليكون بداية عهد جديد لنشر الهداية والطمأنينة، فالإسلام، دين وقيم وعلم، يحقق الغايات المثلى للوصول للكمال الخلقي، يقضي على الظلم ويفتح مغاليق الجهل والتأخر، ويدعو إلى ترك الاتباع الأعمى والبعد عن العصبية والقبلية.

هذه القيم السامية سعى إليها المسلمون عندما فتحوا المدن والأمصار، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، ينهَى أصحابه عن قتل النساء والشيوخ والأطفال، ويمنعهم من إتلاف الزرع وإهلاك المواشي وتخريب البلدان. إن الأصل في الفتح هو الحفاظ على السلم والأمن ونشر دين الله الحنيف، يقول ربعي بن عامر، مبعوث سعد بن أبى وقاص إلى رستم قائد الفرس في موقعة القادسية: «إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم». ولم يكن الفاتح العربي هادماً ولا مدمراً، بل معمر وبناء ومضيف، فعمل على إعادة بناء المدن المفتوحة لتحمل طابعاً حضارياً وإنسانياً، فتنتشر بها معاهد العلوم الدينية والدنيوية، تمهد الطريق للرقي لأهل هذه البلدان، وهو ما يظهر في إعادة تخطيط وإعمار المدن الإسلامية العديدة، في العراق والشام ومصر وإفريقيا والأندلس، وولادة مدن جديدة تخرج من رحم حضارة البناء والتعمير.

تقع مدينة المهدية التاريخية، على شاطئ البحر المتوسط، على الساحل التونسي، عند الموقع المسمى رأس إفريقيا، وهو أبعد نقطة في القارة الإفريقية إلى الشمال، شرقي مدينة تونس العاصمة، وعلى قرب من المدن التونسية الكبرى، مثل القيروان وسوسة وصفاقس وقرطاج وغيرها.

تأسست المهدية حوالي عام 301 ه، عندما هاجر الخليفة عبيد الله المهدي، أول الخلفاء الفاطميين، من مدينة رُقادة التي أنهى فيها حكم بني الأغلب، وقرر اختيار عاصمة جديدة للدولة الفاطمية، واختار موقع رأس إفريقيا، وهي شبه جزيرة منيعة، وإحدى الموانئ القرطاجينية القديمة واتخذ لها اسم المهدية. وشيّد الأسوار حول المدينة، وقام بتهيئة ممر جعله مدخلاً محصناً بباب ضخم، فشملت المدينة علاوة على قصر الأمير، الجامع الكبير والإدارة ومحلات الحرفيين من النساجين والحدادين وبائعي الجواهر والتجار. ويقول المؤرخ حسن حسني عبدالوهاب عن المهدية في كتابه «خلاصة تاريخ تونس»: المهدية مدينة جليل قدرها، شهير في قواعد الإسلام ذكرها، ابتنى الخليفة بها دار الصناعة وهي من عجائب الدنيا، وبنى بها الجامع الأعظم ودار المحاسبات وجعل الأسواق والفنادق فيها، وكانت كلها جنات وبساتين بسائر الثمار.

وجاء في كتاب د.أحمد مختار العبّادي، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في جامعة الإسكندرية، وعنوانه «في التاريخ العباسي والفاطمي» قوله: أما العمل الذي قام به الخليفة المهدي لتدعيم أركان الدولة الفاطمية، فهو بناء العاصمة المهدية، والسبب في ذلك يرجع إلى شعور الفاطميين بالحاجة إلى مكان حصين يحتمون فيه، إذا ما تغيرت عليهم نفوس رعاياهم، خصوصاً أن مدينة رقادة كانت تقع في وسط سهل فسيح، لا يفي بالأغراض الدفاعية اللازمة.. وبنى المهدي عاصمته الجديدة على شاطئ البحر، مباشرة بالقرب من تونس العاصمة، وذلك لأنه رأى أن نفوذ الفاطميين في داخل البلاد، لايزال ضعيفاً، وأنه لا بد من أن يعتمد على أسطوله القوي، لحماية العاصمة وتموينها من جهة البحر إبان الأزمات. يروي المقريزي أن المهدية، كانت عبارة عن شبه جزيرة، وأن الخليفة المهدي، أشرف بنفسه على بنائها. وأنه أنشأ على ساحلها داراً كبيرة لصناعة السفن نُقرت في الجبل وتسعمئة سفينة حربية كبيرة، إلى جانب صهاريج المياه، ومخازن الأقوات، والمسجد والقصر والدواوين ثم الأسوار المحكمة ذات الأبواب الضخمة التي أحاطت بها.هيئة كف

عن الظروف التي قرر فيها الخليفة المهدي بناء المدينة جاء في كتاب الدكتور حسن إبراهيم حسن، «تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي» الصادر في القاهرة عام 1965 المجلد الثالث ص 415 قوله: «أقام عبيدالله المهدي أول الخلفاء الفاطميين في المغرب بمدينة القيروان التي أسسها عقبة بن نافع واتخذها حاضرة لدولته حتى وضع أساس مدينة جديدة سمّاها المهدية. وعزا البكري بناء هذه المدينة إلى محاولة أبي عبدالله الشيعي وأخيه أبي العباس ومن معهما من كتامة قتل المهدي والتنكيل بأهل القيروان.

خرج المهدي إلى تونس يرتاد لنفسه موضعاً يبني فيه مدينة حصينة يعتصم بها إذا خرج عليه أحد الخوارج، وقيل إنه وجد في بعض الكتب ما يدل على خروج أبي يزيد مخلد بن كداد على دولته. وُفِّق المهدي إلى موضع المهدية، وهي متصلة بالبحر كهيئة كف متصلة بزند فتأملها فوجد فيها راهباً في مغارة فقال له:بم يُعرف هذا الموضع؟ فقال: هذا يُسمى جزيرة الخلفاء. فأعجبه هذا الاسم فبناها وجعلها دار مملكته.

تقع المهدية على بعد ستين ميلاً جنوبي القيروان. وذكر البكري أن البحر يحيط بها من ثلاث جهات وأنه يدخل إليها من الجانب الغربي، وشيدت مبانيها بالصخر، واتخذ المهدي لهذه المدينة بابين من الحديد لا خشب فيهما، زنة كل باب منهما ألف قنطار وطوله ثلاثون شبراً، ووزن كل مسمار من المسامير التي استُعملت في تركيبه ستة أرطال. ونُقش على هذين البابين صور بعض الحيوانات. وأقيم بها ثلاثة وستون صهريجاً عدا ما كان يجري فيها من القنوات. ولم تلبث هذه المدينة أن أصبحت مرفأ مهما وسوقا للسلع التي كانت تحملها السفن من الإسكندرية ومن الشام وصقلية وغيرها.

ولما فرغ المهدي من بناء حاضرته الجديدة قال:«اليوم آمنت على الفاطميات» يعني بناته. ثم انتقل إليها وأقام بها، ثم عمّر بها الدكاكين ورتّب فيها أرباب المهن وجعل لكل طبقة سوقا خاصاً بها. فنقلوا إليها أموالهم. وأمر المهدي ببناء مدينة أخرى بجوار مدينة المهدية وجعل بين المدينتين ميدانا فسيحا، وأحاطها بسور وأبواب وأقام عليها الحراس، وسماها زويلة نسبة إلى إحدى قبائل البربر وأسكنها أرباب الدكاكين بحرمهم وأهاليهم. ويظهر أن المهدي حذا بذلك حذو أبي جعفر المنصور حين نقل أسواق حاضرة خلافته إلى الكرخ. بقيت مدينة المهدية حاضرة الدولة الفاطمية حتى خرج أبويزيد بن كداد على الخليفة القائم.. وحتى أقام المعز لدين الله الفاطمي، الخليفة الفاطمي الرابع، مدينة القاهرة سنة 969، ونقل عاصمته إليها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"