القرآن الحكيم

القسم الإلهي
02:52 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.

يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

قال تعالى: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ».

هذه الآيات هي فاتحة سورة يس، وهي الحادية والأربعون في ترتيب النزول والسادسة والثلاثون في المصحف الشريف، وهي مكية.

وفي قوله «يس والقرآن الحكيم» يقسم الله سبحانه وتعالى بياء وسين والقرآن الحكيم، ويقول المفسرون إن يس من أسماء الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإن الله، عز وجل، ينادى بها رسولنا الكريم، لذلك ساد اسم يس بيننا. وبعض المفسرين يرى أن ياء وسين من حروف إعجاز القرآن مثل الم، الر.

يقسم الله إذاً بياء وسين والقرآن الحكيم، والحكمة صفة العاقل، والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة، وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً. وهذا القسم منه، جل جلاله، بالقرآن وحروف يخلع أيضاً على المقسم به عظمة وجلالاً، فما يقسم الله سبحانه إلا بأمر عظيم، يرتفع إلى درجة القسم به واليمين.

ويقول الباحث علي بن محمد بن عبدالمحسن الحارثي في دراسته «أسلوب القسم في القرآن الكريم»: جاء في تفسير الطبري في هذا الموضع يقسم الله تعالى «بوحيه وتنزيله لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، إنك يا محمد لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده». والقسم هنا صادر من الله تعالى، والمقسم له هنا هو الرسول، صلى الله عليه وسلم، لكن إثبات هذا الأمر يشمل أيضاً كل من يسمع هذا الخطاب، خاصة الذين كفروا بهذه الرسالة.

ويأتي القسم بالقرآن في هذا الموضع بعد قوله: «يس»، واختلف في تفسيره فقيل معناه: يا إنسان على لغة طيء، وقيل هو كذلك بالحبشية، وقيل معناه: يا رجل، وقيل سيد البشر والمقصود به محمد، صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وقيل: هو من أسماء الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل هو من أسماء القرآن.

وأقسم الله تعالى في هذا الموضع بالقرآن موصوفاً ب «الحكيم» أي بذي الحكمة المحكم بما فيه من الأحكام والحجج البينات، أو المحكم فلا يتعرض لبطلان وتناقض كما قال في سورة هود «أحكمت آياته»، والمحكم في النظم والمعاني فلا يلحقه خلل.

والحق أن الله تعالى أقسم بالقرآن الحكيم، فأطلق الوصف دون تحديد وجه من الحكمة دون وجه، وعلى هذا فهو الحكيم في كل ما يصح أن يوصف بهذا الوصف من جميع الوجوه المتأتية فيه، في أحكامه ونظمه ومعانيه وأساليبه، ومناهج دعوته، وتناسقه وتناسبه، ومجمله ومفصله، وسائر الفضائل المعربة عن حكمته وحكمة المتكلم به سبحانه.

أكد الله تعالى بهذا المقسم به أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من المرسلين على صراط مستقيم، أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى والإسلام، وعبر عنه بالتنكير للتفخيم والتعظيم. ويخاطبه هو بهذا القسم، ولا يوجهه إلى المنكرين المكذبين، لكن القسم في هذا الموضع لا يعتمد في تأكيده للمقسم عليه على ملابسات المقام فحسب؛ بل إن في تركيبه ما يؤكد المقسم عليه ويدفع إلى الإيمان المطلق بصحته، وذلك واضح فيما أشار إليه الرازي من أن القسم هنا دليل على المقسم عليه، فالقرآن معجزة والمعجزة هي دليل كونه مرسلاً، وإنما سيق هذا الدليل في صورة اليمين لتكون الدواعي إلى الإصغاء إليه والاهتمام به أقوى، فيتشربه الفؤاد فيقع في السمع وينفع في القلب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"