منتجع «عروس» السوداني

03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

الزمان في ثمانينات القرن الماضي، والمكان في منطقة بورتسودان، المدينة الساحلية في شمال شرق السودان، على ساحل البحر الأحمر، وحيث يقع منتجع سياحي في قرية «عروس» الذي بناه رجال أعمال إيطاليون في أواخر السبعينات وهجروه بعد فترة وجيزة لغياب بنية تحتية فيه.

وقد صادف في تلك السنوات نشوب حرب أهلية في إثيوبيا، ومجاعة وهجرات سكانية إلى دول مجاورة، ومن بينها السودان. وكان من بين هؤلاء اللاجئين عدة آلاف من يهود الفلاشا الإثيوبيين، وحيث تم إقامة مخيمات عديدة في صحراء السودان، وعلى الحدود السودانية الإثيوبية.

وكانت «إسرائيل» في تلك المرحلة تسعى جاهدة لتنمية مصادر القوة البشرية في فلسطين المحتلة، بعد أن أظهرت معدلات الهجرة إليها انخفاضاً حاداً في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الإيحاء الإعلامي والسياسي بمسؤولية «إسرائيل» الكونية عن الجماعات اليهودية في العالم.

وفجأة، دبَّت الحياة من جديد، في منتجع «عروس»، وانتشرت في العالم منشورات دعائية وزعت على شركات السياحة العالمية تشير إلى هذا المنتجع، كمقصد لمحبي الغوص في أنقى مياه البحار في العالم، ولعشاق مراقبة الشُعب المرجانية في البحر الأحمر.

توافد إلى المنتجع الآلاف من عشاق الغطس، وأخذ أوروبيون يديرون هذا المنتجع، بمساعدة موظفين صغار سودانيين، وتولّت إدارته امرأة على درجة عالية من الأناقة والجمال والذكاء، وتحمل جنسية إحدى الدول الأوروبية.

لكن لم تتكشف حقيقة هذا المنتجع إلاَّ في منتصف الثمانينات، وتبين أنه كان قاعدة مهمة للموساد «الإسرائيلي»، ومديرته هي إحدى عميلات «الموساد»، وأن دوره كان يتمركز على تهجير الجماعة اليهودية الإثيوبية المعروفة بالفلاشا، ونقلهم بشاحنات من مخيمات اللاجئين على الحدود الإثيوبية - السودانية إلى هذا المنتجع على الساحل السوداني، حيث يتيح لقطع البحرية «الإسرائيلية» الاقتراب من الساحل ونقل «الفلاشا» بالقوارب الصغيرة إلى سفن البحرية التي تنتظرهم في المياه الدولية.

ولم يتم اكتشاف الحياة المزدوجة لموظفي المنتجع إلا في أواخر منتصف الثمانينات حينما اشتبه الجيش السوداني بإحدى الشاحنات في الصحراء، فأطلق النار عليها، معتقداً أنها تحمل تجاراً مهربين، وكإجراء وقائي، قام «الموساد» بإخلاء عملائه من المنتجع بشكل عاجل.

في ذلك العام، كانت قد تبلورت صفقة أخرى سرية بدأت خيوطها في قصر ثري عربي (غادر الدنيا قبل ثلاث سنوات) في نيروبي، حينما جمع هذا الملياردير، الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وشارون، وبعض رجال «الموساد»، وتم الاتفاق على نقل نحو عشرة آلاف من يهود «الفلاشا» من مطار الخرطوم إلى بلجيكا على طائرات شحن كبيرة يملكها رجل أعمال صهيوني بلجيكي، وتحت غطاء الإغاثة الإنسانية.

وكان ثمن هذا الاتفاق، وفق ما سربته صحيفة أمريكية، هو نحو 56 مليون دولار توضع في حساب سري باسم الرئيس نميري في أحد فروع بنك أوروبي في روما، إضافة إلى مبالغ مالية أخرى لبعض مساعدي النميري، ومنهم لواء في الجيش السوداني مقرّب من النميري.

لم يتحدث التاريخ عن مآثر وطنية وخيرية تذكر لهذا الثري العربي، ومن أصول تركية، لكنه كان معروفاً بولعه بالقمار، وعاشقاً للشهرة وللمشاهير من نجوم «هوليوود»، وإقامة الحفلات الصاخبة الكثيرة البذخ، وقيل عن احتفالية كبرى أقامها بمناسبة بلوغه الخمسين من عمره، إنها كانت أكثر بذخاً من الاحتفال الذي أقامه ملك فرنسا لويس الرابع عشر بمناسبة توليه العرش.

لكن يُذكر له أنه كان على صلة بفضيحة «إيران كونترا» أثناء الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات، وأنه كان منخرطاً في صفقات وعمولات بملايين الدولارات في تجارة أسلحة وبشر أثناء حروب أهلية في إفريقيا ونيكاراجوا، وقد اتهمه القضاء الأمريكي بغسل الأموال، لصالح السيدة إيميلدا ماركوس، زوجة الرئيس الفلبيني الأسبق.

يتابع نهر الزمن جريانه، وتشهد الحياة أجيالاً من الناس تتعاقب، والإنسان فيها مدعو إلى التعمير والمشي في مناكب الأرض، وتحضر في الذاكرة أسماء وشخصيات عربية وقفت دوماً مع العمل الصالح من خلال وضع ثرواتها لخدمة الخير العام في مجتمعاتها، ومثّلت حلقات مضيئة في سلسلة حلقات أثرياء خدموا العلم والفكر والأدب، وكافحوا الفقر، وتركوا أثراً مفيداً، وإدراكاً حقيقياً لسنن الحياة.

تذكرت الملياردير بيل جيتس، أحد مؤسسي شركة «مايكروسوفت»، وهو ينشئ مع زوجته مليندا أكبر مؤسسة خيرية في العالم معنية بالتعليم والصحة، والبيئة ومواجهة الفقر، ويتبرع لها بثروته، ويتفرغ لهذا العمل الخيري الإنساني.

لهؤلاء وأمثالهم، دوماً، الذكرى العطرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"