‬التعامل مع السنة.. لا إفراط ولا تفريط

وما ينطق عن الهوى
01:34 صباحا
قراءة 5 دقائق

‬أنعم الله تبارك وتعالى على هذه الأمة عندما جعل وسطيتها إرادة إلهية، وليست مجرد خيار إنساني‮ ‬لما هو مباح من الأمور «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً»،‮ (‬سورة البقرة: 143). ‬
‮يذكر المفكر الإسلامي الراحل‮ ‬الدكتور محمد عمارة، رحمه الله، في‮ ‬كتابه‮ «‬حقائق وشبهات حول السنة النبوية‮» ‬أن هذه الأمة تميزت بالوسطية في‮ ‬التعامل مع الحديث والسنة النبوية، وتميزت هذه الوسطية‮ «‬في‮ ‬النسق الفكري‮ ‬الإسلامي‮» ‬بأنها العدل المتوازن، والتوازن العادل، وأنها‮ ‬تبرأ من‮ الإفراط والتفريط، فهي‮ ‬تجمع من طرفي‮ ‬الغلو عناصر الحق ومكونات العدل، لتكون هذه الوسطية الإسلامية الجامعة موقفاً‮ ‬ثالثاً، هو اعتدال بين طرفين، وتوازن بين خللين، وعدل بين ظلمين، وحق بين باطلين، وهو المعنى الذي‮ ‬أصاب لبه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي‮ ‬عرف فيه هذه الوسطية عندما قال‮: «‬الوسط‮: ‬العدل، جعلناكم أمة وسطا‮ً».‬
‮فالوسطية‮ «‬في‮ ‬الفكر والسلوك‮» ‬هي‮ ‬منظار الرؤية الإسلامية لكل شؤون الدين والدنيا‮.. ‬والغلو‮ «‬بطرفيه‮» ‬هو سبيل المتنكبين سبيل المؤمنين بالإسلام‮، ‬ولقد كان‮ «‬ولا‮ ‬يزال‮» ‬هذا الحال هو حال الناظرين والمتعاملين مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‮.. ‬ضل منهم أولئك الذين‮ ‬غالوا في‮ ‬تعاملهم مع مأثورات السنة ومروياتها، إفراطاً‮ ‬أو تفريطاً، واهتدى الذين اتخذوا منها الموقف الوسطي، المتسم بالتوازن والعدل والاعتدال‮.‬


تمييز لابد منه


‮لقد تميزت النظرة الأصولية الوسطية للسنة النبوية بالتمييز‮ «‬في‮ ‬مرويات هذه السنة ومأثوراتها‮» ‬بين الأحاديث المتواترة وأحاديث الآحاد‮.. ‬والتمييز في‮ ‬كتب السنة بين الصحاح التي‮ ‬وضع جامعوها شروطاً‮ ‬للصحة رفعت من درجات الاطمئنان للمرويات، وبين تلك الكتب التي‮ ‬جمع أصحابها كل المرويات، تاركين التدقيق والفرز للعقل الناقد، وفق قواعد علم الجرح والتعديل للرواة ولمتون ومضامين المرويات‮.‬
‮والتمييز في‮ ‬مضامين المرويات بين‮ «‬العقائد‮» ‬التي‮ ‬لابد من أخذها عن النصوص قطعية الثبوت‮ ‬وبين‮ ‬«الأمور العملية‮» ‬التي‮ ‬تحولت إلى‮ واقع‮ ‬مارسه الناس‮ ‬والتي‮ ‬يمكن‮ ‬أخذها عن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت‮.‬
‮كذلك، ميز هذا المنهاج الوسطي‮، ‬في‮ ‬التعامل مع السنة النبوية‮، ‬بين ‬السنة النبوية، التي‮ ‬جاءت بياناً‮ ‬نبوياً‮ ‬للبلاغ‮ ‬القرآني، والتي‮ ‬هي‮ ‬لذلك‮ ‬دين ثابت، اكتسبت وضع الدين الإلهي‮ ‬من مجيئها بياناً‮ ‬للوضع الإلهي‮ ‬«أي‮ ‬الدين‮» وسنة العبادة، التي‮ ‬جاءت تفصيلاً لمجمل القرآن الكريم، وتجسيداً‮ ‬للمناسك والشعائر التي‮ ‬تمثل طاعة العباد للمعبود، وآيات إسلام المسلمين الوجه لله‮.. ‬والتي‮ ‬هي‮ ‬لذلك‮ ‬دين خالد، ومطلق ديني، لا زيادة فيها ولا نقصان منها، ولا تغيير لها ولا تبديل، مهما تغاير الزمان أو اختلف المكان، أو تبدلت العادات والأعراف‮.‬
‮وأيضاً‮ ‬السنة التشريعية، التي‮ ‬مثلت أحكاماً‮ ‬جاءت بها الأحاديث النبوية في‮ ‬المعاملات الدنيوية الثوابت، المرتبطة بمنظومة القيم الثابتة، وبالفطرة الإنسانية السوية، التي‮ ‬لا تختلف باختلاف الزمان والمكان‮.‬


ثوابت ومتغيرات


‮ولقد ميز المنهاج الإسلامي‮ ‬الوسطي‮ ‬بين أنواع السنة هذه‮ ‬التي‮ ‬هي‮ ‬دين مطلق وخالد، لأنها البيان النبوي‮ ‬للبلاغ‮ ‬القرآني‮ ‬الذي‮ ‬هو جماع الدين، ‮ وبين ألوان من السنة النبوية، مثلتها أحاديث تعلقت ب‮: ‬ سنة العادة، التي‮ ‬فعلها أو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعادات وأعراف اجتماعية بيئية، أو لجبلة إنسانية، أو لحب أو كره في‮ ‬مقومات حياته كإنسان، والسنة‮ ‬غير التشريعية، التي‮ ‬مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في‮ ‬نطاق الاجتهاد «‬غير المعصوم» ‬في‮ ‬المتغيرات الدنيوية، المعللة بحكم ومقاصد بتغير الوسائل المحققة لهذا الحكم وهذه المقاصد، والتي‮ ‬تتعلق أساساً بالسياسات والمعاملات في‮ ‬التفاصيل والفروع‮ «أي‮ ‬في‮ ‬الفقهيات» ‬والسنة التي‮ ‬مثلت خصوصيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتي‮ ‬نص القرآن الكريم، أو نبه الرسول في‮ ‬الأحاديث، على أنها من خصوصياته التي‮ ‬لم‮ ‬يلزم بها أمة الإسلام‮.‬
‮ويؤكد شهاب الدين أحمد بن إدريس في‮ ‬كتاب‮ ‬«الإحكام في‮ ‬التمييز ما بين الفتاوى والأحكام‮»‮ ‬على أن المنهاج الإسلامي‮ ‬الوسطي‮ ‬ميز في‮ ‬التعامل مع السنة النبوية ‬«في‮ ‬فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه‮» بين العبادات الثوابت، وبين المعاملات المتغيرة، فالأولى الاقتداء فيها والتأسي‮ ‬هو تعبد وعبادة، والثانية لا ثبات فيها للوسائل ولا قداسة فيها للآليات، وإنما الدين فيها هو تحقيق المقاصد التي‮ ‬تتغيا المصالح الشرعية المعتبرة للعباد‮.‬
‮وميز أيضاً هذا المنهاج الوسطي‮، فيما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين ما تركه لأنه منهي‮ ‬عنه ديناً، وبين ما تركه لعدم ظهور ما‮ ‬يقتضيه في‮ ‬عصره، فباب الفعل لهذا المتروك مفتوح عندما تطرأ‮ «‬مع العصور المتلاحقة‮» ‬مقتضيات الفعل لهذه المتروكات‮.‬
‮وتلك مجرد معالم ونماذج، للمنهاج الوسطي‮ ‬في‮ ‬التعامل مع السنة النبوية، وهو المنهاج الذي‮ ‬ساد طوال عصور الاجتهاد الإسلامي، والتي‮ ‬دونت فيها السنة، وقامت فيها علومها كسمة بارزة في‮ ‬علوم الحضارة الإسلامية‮.‬


غلو مرفوض


‮لكن الفكر الإسلامي‮ «‬في‮ ‬عصر التراجع الحضاري‮.. ‬وفي‮ ‬عصر التغريب‮» ‬أي‮ ‬في‮ ‬حقب‮ «‬التقليد الموروث‮» ‬و «التقليد الحداثي‮» ‬قد ابتلي بالانحراف عن هذا المنهاج الوسطي‮ ‬في‮ ‬التعامل مع السنة النبوية‮.‬
‮فوجدنا من أهل‮ «‬التقليد للموروث» ‬من لا‮ ‬يميزون بين ألوان المأثورات والمرويات، فيلزمون أنفسهم ويلزمون الأمة بما لا‮ ‬يلزم‮ «‬وهذا هو‮ ‬غلو الإفراط» ‬ووجدنا من أهل‮ «‬التقليد الحداثي» ‬من‮ ‬يهدرون كل المرويات، بدعوى‮ «‬التاريخية»‮ ‬أو‮ «التاريخانية»‬، التي‮ ‬تربط كل النصوص بالزمن الذي‮ ‬ظهرت فيه، والملابسات التي‮ ‬صاحبت نشأتها الأولى، وذلك من دون تمييز في‮ ‬هذه النصوص بين أقسامها التي‮ ‬تحدث عنها علماء الأصول، حتى لقد جعلوها‮ «‬علماً» ‬أفردوا له المؤلفات‮.‬
‮إنهم لم‮ ‬يميزوا بين السنة التي‮ ‬هي‮ ‬دين ثابت، لتعلقها بالبلاغ‮ ‬القرآني‮ ‬والثوابت الدينية «‬في‮ ‬العقائد والعبادات والقيم وثوابت المعاملات وفلسفات التشريع ومبادئه وقواعده‮» ‬وبين السنة التي‮ ‬هي‮ ‬فقه الواقع النبوي‮ ‬المتغير، ومثلها سنن العادات والخصوصيات النبوية، فمثلوا‮ ‬غلو التفريط، كما مثل أهل «التقليد للموروث» ‬غلو الإفراط‮.‬
‮لقد أراد الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن تكون وسطاً، عدلاً، متوازناً، وذلك حتى تحقق شهادتها ‬على حضارات الغلو‮ ‬«غلو الإفراط والتفريط‮»، ‮وإذا كانت حياتنا الفكرية الحديثة والمعاصرة تعاني‮ ‬من الاستقطاب الحاد بين الغلاة، في‮ ‬الموقف من السنة النبوية الشريفة، فإن الحاجة تتزايد إلى تقديم الفكر‮ «‬الأصولي‮ ‬الوسطي‮»، الذي‮ ‬يقدم للباحثين والقراء معالم المنهاج الوسطي‮ ‬في‮ ‬التعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك تعميقاً‮ ‬لمعالم هذا المنهاج الوسطي، الذي‮ ‬هو وحده منظار الرؤية الإسلامية الخالصة، وأيضاً‮ ‬لدعوة الغلاة‮ ‬من أهل‮ «‬التقليد للموروث‮» ‬، و«التقليد الحداثي‮» ‬إلى كلمة سواء‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"