الإمارات.. أكثر من بيئة شعرية

02:37 صباحا
قراءة 6 دقائق

يوسف أبولوز

ظهرت قصيدة النثر في الإمارات في بيئة شعرية كلاسيكية محافظة، تقوم على شعراء لهم مرجعيات ثقافية أو أدبية كلاسيكية محافظة أيضاً، ولذلك، ومنذ البداية، كان على قصيدة النثر في الإمارات أن تشكّل حالة أدبية لها وزن ثقافي مُقنع أولاً للحيثيات الموجودة في هذه البيئة الشعرية الكلاسيكية المحافظة. فقصيدة العمود الخليلي هي قصيدة هذه البيئة بشعرائها الكُثر، الذين يرفض البعض منهم التحوّل حتى إلى قصيدة التفعيلة، فما بالك بقبول قصيدة النثر المتحررة تماماً من العمود والوزن والبحر الشعري.

ظهرت قصيدة النثر في الإمارات أيضاً في بيئة قصيدة التفعيلة التي جرى قبولها على مضض، أولاً من جانب شعراء العمود الخليلي، لكن لأن ثمة ما يمكن أن يسمى «قرابة شعرية» قائمة بين العمودي والتفعيلي. وتتمثل هذه القرابة في «الوزن» الذي هو المشترك الرئيسي بين القصيدتين العمودية والتفعيلة.

انتقل عدد من شعراء العمود في الإمارات إلى قصيدة التفعيلة، لكن ببطء وعلى حذر. وبالطبع، فإن من ينتقل بحذر وربما بتحفظ شديد من العمودي إلى التفعيلي، لن يفكر ولو من باب التجربة أن ينتقل إلى قصيدة النثر.

هذه نقاط يجب أن نضعها في البال عند قراءة خريطة قصيدة النثر في الإمارات، فالبيئة الشعرية في سبعينات القرن العشرين في الإمارات كانت بيئة العمودي، ويمكن القول ولو بمحض اجتهاد أن الثمانينات في الإمارات هي زمن قصيدة التفعيلة، وأن أواخر الثمانينات وبداية التسعينات هو زمن قصيدة النثر في الإمارات، ليتشكل بذلك تدريجياً تنوع شعري إماراتي خلال ثلاثة عقود وأكثر حدث في أواخرها، أو بعد ذلك من الوقت، نوع من القبول لقصيدة النثر بعد مراحل سابقة من الرفض الذي وصل عند بعض شعراء العمود إلى التعصّب لقصيدتهم الخليلية التي أخذت في السنوات التالية تعترف بقصيدة التفعيلة.

وكما قلنا انتقل بعض العموديين إلى التفعيلة. وعلى أي حال، فإن هذه الحلحلة في التوتر الذي كان قائماً بين العموديين والتفعيليين، جاءت لمصلحة قصيدة النثر التي ستكون لها خريطتها الواسعة اليوم، ليس فقط في المشهد الشعري الإماراتي؛ بل في المشهدين الخليجي والعربي.

قائمة

يكفي مبدئياً أن نشير إلى قائمة من شعراء قصيدة النثر في الإمارات، تؤكد ظاهرة محلية ربما لم يلتفت إليها أحد، وهي أن شعراء قصيدة النثر في الإمارات هم الأكثر على المستوى العربي. ففي هذه البيئة الشعرية الإماراتية المتنوعة نقرأ لهذه الكوكبة: حبيب الصايغ الذي يكتب العمودي والتفعيلي والنثري، وظبية خميس التي تكتب القصة القصيرة أيضاً، وعبد العزيز جاسم الذي بدأ قاصاً في مرحلة محددة من حياته الإبداعية، وخالد الراشد، وخالد البدور، وجمال علي، وأحمد المطروشي، وهاشم المعلم، وعلي العندل، ونجوم الغانم، وعادل خزام الذي بدأ تفعيلياً، وأحمد راشد ثاني الذي بدأ هو الآخر تفعيلياً، ومحمد المزروعي الذي يمارس الرسم أيضاً، إلى جانب كتابة قصيدة النثر، ومرعي الحليان الذي بدأ شاعر قصيدة نثر، ثم تحوّل إلى المسرح وأبدع فيه بكثير من العروض، ومسعود أمر الله الذي بدأ شاعر قصيدة نثر، لكنه تحوّل إلى السينما، والهنوف محمد، وإبراهيم الملّا، وعبد الله عبد الوهاب. وهؤلاء كونوا جماعة تسمى جماعة النورس، وأصدروا في الثمانينات نشرة تضم قصائد نثر، ثم ثاني السويدي الذي أصدر ثلاث مجموعات شعرية كما كتب رواية بعنوان الديزل، وسعد جمعة الذي أصدر أربع مجموعات شعرية، وميسون صقر التي ترسم وتكتب الرواية، وأمينة ذيبان، وأحمد العسم، وجمعة الفيروز القاص والناثر والموسيقي، وعبدالله السبب، وخلود المعلّا، وأسماء الزرعوني في مجموعتها «هذا المساء لنا». والزرعوني تكتب القصة القصيرة أيضاً، وعائشة البوسميط التي ترسم أيضاً.

هذا مقطع واحد فقط من كتّاب قصيدة النثر في الإمارات، فقد ظهرت بعد هذه الكوكبة شاعرات وشعراء آخرون منذ أواسط التسعينات وحتى اليوم، لا بل هناك من الشباب من يكتب الشعر في الإمارات بالإنجليزية.

أساليب

نحن أمام خريطة متعددة الأسماء والأساليب والأفكار.. خريطة قصيدة نثر إماراتية حيوية كانت ظهرت، كما قلنا، في بيئة محلية من الصعب أن تقبل بها إلى درجة الرفض الذي تحوّل بفعل هذا التزايد في التجارب الشعرية النثرية إلى قبول، وأكثر من ذلك توسع هذا القبول إلى احتفاء عربي بقصيدة النثر في الإمارات، وراحت أقلام نقدية عربية تعاين طبيعة هذه القصيدة وخصائصها وشخصيتها الإبداعية.

يُشار أيضاً إلى طبيعة قراءات شعراء قصيدة النثر لتاريخ وثقافة وتجارب هذه القصيدة عربياً وعالمياً. وستكون «مجلة شعر» البيروتية 1957 1970 مرجعاً ثقافياً مهماً بالنسبة لشعراء قصيدة النثر في الإمارات.

لقد توقفت مجلة شعر عام 1970، ولكن بقي أثرها بعد ذلك إلى سنوات طوال؛ بل حتى اليوم ما يزال قائماً وضرورياً لشعراء قصيدة النثر، ليس الإماراتيين فحسب؛ بل لشعراء قصيدة النثر العرب.

قبل أن يقرأ شاعر قصيدة النثر في الإمارات، الشعريات الحداثية في العالم «وأغلبية هذه القراءات عبر الترجمة إلى العربية»، كان قد قرأ التراث العربي بعين نقدية، مستفيداً من المراجعات ووجهات النظر الجديدة التي تناولت هذا التراث، وبذلك فالشاعر الإماراتي كما يرى بعض الكلاسيكيين، ليس مقطوعاً عن التراث الشعري العربي والنثري منذ الجاهلية وحتى الشعر الأندلسي، وبعد ذلك من صعود وهبوط للقصيدة العمودية التي مثّلها في العصر الحديث أعلام قليلون: الجواهري وأبو ريشة وسعيد عقل، وأحمد شوقي والأخطل الصغير، وعبدالله البردوني وحافظ إبراهيم، وغيرهم من رموز «خليلية» هي اليوم كلها طيّ الغياب الذي لم يتواز مع أي حضور جديد لرموز «خليلية» جديدة في قامات أولئك الرموز القدامى.

صحيح أن قصيدة العمود لم تنتهِ بغياب أولئك، الذين يُطلق عليهم في اللغة الشعرية العمودية «الفحول». فالشعر لا يموت؛ لأن اللغة العربية في حد ذاتها هي أبجدية عصية على الموت، إلا أن «فحولاً» جدداً آخرين بعد ذلك الرعيل الكبير لم يظهروا إلا في حالات نادرة.

هذا المشهد الشعري الخليلي في تحولاته كلها، لم يغب عن قراءة شاعر قصيدة النثر في الإمارات، وكذلك لم تغب عنه معاينة تحولات قصيدة التفعيلة التي أخذت تتراجع أيضاً هي الأخرى بعد غياب رموزها الكبار: محمود درويش، وأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي وبلندر الحيدري، ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ونزار قباني، وغيرهم ممن شحنوا قصيدة التفعيلة بلغة عالية الشعرية في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.

بهذا المعنى.. أمام شاعر قصيدة النثر، خاصة بعد تسعينات القرن العشرين «برواز» شعري جديد سقط منه، شئنا أم أبينا، شعراء عموديون وشعراء تفعيليون، وفي الوقت نفسه ظهر في هذا «البرواز» شعراء قصيدة نثر عربية جديدة، وشعراء الإمارات بالطبع ضمن هذا السياق المتحوّل والجديد.

قبل أن أمثل لهذا التتبع لقصيدة النثر في الإمارات بنموذجين عميقين واستثنائيين: عبد العزيز جاسم، وخلود المعلّا، أضيف أيضاً، أن قصيدة النثر في الإمارات حملت ظواهر وثيمات ومفردات إماراتية محلية أصيلة، وبذلك فقصيدة النثر في الإمارات، ليست منقطعة عن تراثها وثقافتها الشعبية المحلية، وتاريخ مكانها وإشارات ورمزيات هذا المكان الإماراتي.

فقد زعم البعض من الذين يقرؤون هذه القصيدة بتعصب مسبق للعمودي، أن قصيدتها تغريبية أو مغرّبة أو غريبة على البيئة الثقافية المحلية، وهذا غير صحيح.

لا لزوم لي

بدأ عبد العزيز جاسم، بمجموعة أولى صغيرة بعنوان «لا لزوم لي»، صدرت في عام 1995 (بيروت الطبعة الأولى)، وكان في تلك المجموعة كمن يهيئ نفسه للتحليق أعلى مما في أشواق النسر، كانت تلك المجموعة مجرد عتبة فقط دلف عبد العزيز بعدها إلى أكوان ومجرّات عكف وحده مرة ثانية وحده على تشكيلها وتكوينها بلغة شمسية إن جازت العبارة فهو شاعر الضوء؛ شاعر النور المبهر، وشاعر اللغة المولودة من أكثر من رحم؛ اللغة الحادة المسننة، اللغة الحازمة، لغة الهدوء والحلم والحنوِّ في الوقت نفسه، من دون أن ينسى أنه تشكيلي تلك الأكوان والمجرّات.

شاعر مثقف بعمق ومسؤولية وأخلاقية أدبية. يتغذى على الفكر والفلسفة، كما يتغذى الفحل على الرحيق، وبذلك، فإن قصيدته كونية دائماً، إحاطية دائماً.. ملمومة، ومركّزة، وخالية من الهوامش والبلاغات، وتحيل إليه دائماً؛ لأنها قادمة أصلاً منه.

يقول في قصيدة «آلام طويلة كظلال القطارات»: «جرّبتُ المهالك الألف. جرّبتُ السيف، والجحود، ولففتُ على المغزل بلواي، وكانت كل شعرة من شاربي، خيطاً من نور. تمشي عليه حبيبتي معصوبة العينين وتراني. حبيبتي مَن نازعني الجنّ على قلبها، وما صمدوا. نجمة الكهرمان».

ضياع الزمن

أول مجموعات خلود المعلّا، كانت بعنوان «هنا ضيّعتُ الزمن» عام 1997 وصدرت في القاهرة، ومنذ بدايتها الشعرية ستضع علامتها الجمالية التي تُعطيها حق الخصوصية الأدبية وسط خريطة قصيدة نثر متقاطعة ومشتبكة بالأسماء والتجارب والتجريب، غير أن خلود المعلا ذهبت إلى ذاتها المتأملة الحالمة المفكرة، والجريئة أيضاً نحو قصيدة مشغولة بمفردات قاموسها المتجدد: الطفولة، القلب، الوجد، السفر، الماء، الشمس، الشتاء، الرحيل، الانتظار، لكن هل يكفي كل ذلك؟

خلود تخاطب الليل والإنسان والحياة. شاعرة متصلة بالجمال وقارئة له مثلما تقرأ العرّافة خطوط اليدين، وهي عرافة ذاتها، ودليلة روحها إلى الحرية.

في شعر خلود موسيقى غير معلنة، كما لو أنها تنفر من الإيقاع والصخب. في شعرها تكمن صورتها، لكنها ليست صورة مقنّعة بالظلال، ليست صورة القناع أبداً. شاعرة مباشرة، أيقونية، تكتب لتملأ العالم بالحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"