مصدران تشريعيان لا يمكن الفصل بينهما

وما ينطق عن الهوى
05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق

ختم الله تعالى الرسالات السماوية برسالة الإسلام، فبعث محمداً‮ ‬صلى الله عليه وسلم رسولاً هادياً للناس جميعاً، قال سبحانه وتعالى: ‬«وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً». وقال عز من قائل: ‬«يا أيها النبي‮ ‬إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً»، (الأحزاب: ‬45- 46)، وأنزل إليه القرآن الكريم المعجزة الكبرى، والحجة العظمى، وأمره بتبليغه وبيانه، وتنفيذ أحكامه بأقواله وأفعاله وتقريراته، ليكون للأمة من ذلك منهج كامل متكامل في‮ ‬جميع مناحي‮ ‬الحياة: ‬العقيدة، والعبادة، والمعاملات، والأخلاق، والسلوك والآداب، يتناول كل ما‮ ‬يحتاج إليه العباد في‮ ‬حياتهم الشخصية والاجتماعية والتربوية، والاقتصادية، والإدارية، والسياسية، في‮ ‬المنشط والمكره، وفي‮ ‬العسر واليسر، والسلم والحرب وغيرها من الميادين‮.‬
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه‮ «‬السنة النبوية‮ - ‬مكانتها، حفظها وتدوينها وتفنيد بعض الشبهات حولها‮»: ‬«إن السنة هي‮ ‬الوحي‮ ‬غير المتلوِّ، فكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ سوى القرآن الكريم‮ من بيان لأحكام الشريعة، وتفصيل لما في‮ ‬الكتاب الكريم وتطبيق له هو السنة النبوية أو الحديث الشريف، وهو بوحي‮ ‬من الله تعالى، أو باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم‮، والرسول صلى الله عليه وسلم لا‮ ‬يُقر على اجتهاد خاطئ، فمرد السنة إلى الوحي، فالقرآن الكريم هو الوحي‮ ‬المتلوّ، كلام الله تعالى المعجز المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل الأمين، المتواتر لفظه جملة وتفصيلاً، المتعبد بتلاوته، المكتوب في‮ ‬المصاحف‮، ‮والسنة وحي‮ ‬غير متلوّ لا‮ ‬يتعبد بتلاوتها، وقد أوجب الله تعالى علينا طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى الرسول قائلاً‮: ‬«وما‮ ‬ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي‮ ‬يوحى»، (سورة النجم‮). ‬ومن هنا كان الوحي‮ ‬قسمين‮: ‬أحدهما وحي‮ ‬متلوّ، وهو القرآن الكريم، والثاني‮ ‬وحي‮ ‬منقول‮ ‬غير معجز، وهو الوارد عن الرسول المبين عن الله‮ عز وجل‮ ‬ مراده منا، وهذا بيان واضح في‮ ‬قوله عز وجل‮: ‬«وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»، (سورة النحل‮).


وحي غير متلوّ


لقد أوجب الله تعالى طاعة ما جاء في‮ ‬السنة كما أوجب طاعة ما جاء في‮ ‬القرآن الكريم ولا فرق بينهما، فالقرآن والسنة مصدران تشريعيان متلازمان، لا‮ ‬يمكن الفصل بينهما، ولا‮ ‬يمكن لمسلم أن‮ ‬يفهم الشريعة إلا بالرجوع إليهما معاً، ولا‮ ‬غنى لمجتهد عن أحدهما بالآخر‮.‬
‮ويؤكد المفكر الإسلامي‮ الراحل محمد عمارة رحمه الله في‮ ‬كتابه‮ «‬حقائق وشبهات حول السنة النبوية» ‬ أن السنة، هي‮ ‬وحي‮ ‬غير متلوذ، على مر تاريخ الفكر الإسلامي‮ ‬والحضارة الإسلامية، ‮ وقد ‬نهضت السنة النبوية بدور المصدر الثاني‮ ‬من مصادر التشريع - إذ المصدر الأول هو القرآن الكريم‮ -.. ‬وبهذا الاعتبار، حظيت السنة باهتمامات فكرية وخدمات علمية، يسرت للأمة الاستفادة منها في‮ ‬هذا الميدان، ميدان التشريع، والفقه، والقانون‮.‬
كذلك، حظيت السنة النبوية بجهود علمية متميزة‮ وربما‮ ‬غير مسبوقة في‮ ‬الفكر الديني‮ ‬والحضاري‮ ‬لدى الأمم الأخرى‮ بميادين التوثيق‮.. ‬والإسناد‮.. ‬الرواية والجرح والتعديل للرجال الذين رووها ودوّنوها، حتى ليمكن للحضارة الإسلامية أن تفاخر بالمناهج والتطبيقات التي‮ ‬تبلورت علماً شامخاً في‮ ‬توثيق النصوص والمأثورات والمرويات، وهو علم‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتعدى حدود السنة إلى ميدان التاريخ‮. ‬وإلى حد ما، حظيت السنة النبوية الشريفة بجهود علمية في‮ ‬ميدان‮ «‬الدراية‮»‬، والكشف عن علل المتن ومقارنة المرويات، وخاصة في‮ ‬عرض الأحاديث على محكم القرآن الكريم، وهي‮ ‬جهود تحتاج إلى المزيد من المتابعات والإضافات‮.‬


كنوز السنة


لكن هناك ميادين في‮ ‬علوم السنة النبوية، تحتاج إلى ريادات بحثية، لأنها لاتزال بكراً حتى الآن، ومنها الكشف عما في‮ ‬السنة النبوية من مصادر للمعرفة الإنسانية، وخاصة في‮ ‬ميدان السنن والقوانين الإلهية‮ ‬وسنن وقوانين المجتمع الديني، والتقدم والتراجع، والتجديد والجمود، والنهوض والانحطاط، فإسلامية المعرفة الاجتماعية والإنسانية تستلزم النظر إلى السنة النبوية بهذا الاعتبار، وبقدر ما تتزايد حاجات أمتنا إلى فقه النهضة، والوعي‮ ‬بسنن الإقلاع الحضاري، بقدر ما تتزايد حاجات العقل المسلم كي‮ ‬يدرك ما في‮ ‬السنة النبوية من كنوز في‮ ‬هذه الميادين‮.‬
لقد درج الكثيرون‮ ‬ - بل الجميع‮ - على الحديث عن أن السنة النبوية هي‮ ‬المصدر الثاني‮ ‬من مصادر التشريع الإسلامي‮ وهذا حق لا ريب فيه‮. ‬ولكن‮.. ‬آن الأوان للعقل المسلم أن‮ ‬يدرك ويعلن أن السنة النبوية، باعتبارها البيان النبوي‮ ‬للبلاغ‮ ‬القرآني، قد‮ ‬غدت بمثابة خيوط النسيج الذي‮ ‬كون ويكون علوم الحضارة الإسلامية‮ الشرعية منها والمدنية، الاجتماعية منها والإنسانية، علوم المقاصد وعلوم الآليات، بل وحتى فلسفات التطبيقات للعلوم الطبيعية والدقيقة والمحايدة أيضا‮ً فهي‮ ‬بمثابة الهواء الذي‮ ‬حمل القرآن الكريم إلى الفضاء الذي‮ ‬تمدد فيه الإسلام، ويتنافس فيه المسلمون‮.‬


روح الحضارة الإسلامية


لقد مثل الوحي‮ ‬القرآني، الذي‮ ‬نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين‮ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬ النواة التي‮ ‬مثلت جماع ثوابت الإسلام وكلياته، والتي‮ ‬كانت بمثابة الشجرة، التي‮ ‬تفرعت منها وانبثقت عنها روح الحضارة الإسلامية، والمدنية الإسلامية، والثقافة الإسلامية، فضلاً عن معايير القيم والأخلاق، والعادات والتقاليد والأعراف‮.‬
‮ولو أننا تصورنا الوحي‮ ‬القرآني‮ ‬في‮ ‬صورة‮ «‬الحجر‮»‬، الذي‮ ‬ألقي‮ ‬به في‮ «‬بحيرة الحياة الإسلامية‮»‬، فإن هذا‮ «‬الحجر‮» ‬قد انداحت من حوله العديد من الدوائر، وكانت أولاها دائرة السنة النبوية، التي‮ ‬مثلت البيان النبوي‮ ‬لهذا البلاغ‮ ‬القرآني، حيث فصلت مجمله، وأوضحت إشارته، وجسدت مقاصده، وأفصحت عن مراميه، وحولته إلى حياة حية وواقع معيش، وإلى سجايا وقيم وأخلاق تحكم كل شؤون الإنسان‮: ‬الفرد والمجموع والاجتماع، الذات والآخر، في‮ ‬الدين والدولة، في‮ ‬الدنيا والآخرة على السواء، حتى إننا لو تخيلنا الحياة الإسلامية‮ في‮ ‬جميع ميادينها‮ ‬ قطعة نسيج، فإن هذا النسيج إنما يكون من خيطين أساسيين‮ (‬القرآن والسنة‮) ‬فمن خيوطهما تكون‮ (‬السدى‮) ‬و(اللحمة‮) ‬في‮ ‬هذا النسيج، وهذه الحياة‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"