ختم الله تعالى الرسالات السماوية برسالة الإسلام، فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً هادياً للناس جميعاً، قال سبحانه وتعالى: «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً». وقال عز من قائل: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً»، (الأحزاب: 45- 46)، وأنزل إليه القرآن الكريم المعجزة الكبرى، والحجة العظمى، وأمره بتبليغه وبيانه، وتنفيذ أحكامه بأقواله وأفعاله وتقريراته، ليكون للأمة من ذلك منهج كامل متكامل في جميع مناحي الحياة: العقيدة، والعبادة، والمعاملات، والأخلاق، والسلوك والآداب، يتناول كل ما يحتاج إليه العباد في حياتهم الشخصية والاجتماعية والتربوية، والاقتصادية، والإدارية، والسياسية، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، والسلم والحرب وغيرها من الميادين.
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة النبوية - مكانتها، حفظها وتدوينها وتفنيد بعض الشبهات حولها»: «إن السنة هي الوحي غير المتلوِّ، فكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن الكريم من بيان لأحكام الشريعة، وتفصيل لما في الكتاب الكريم وتطبيق له هو السنة النبوية أو الحديث الشريف، وهو بوحي من الله تعالى، أو باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يُقر على اجتهاد خاطئ، فمرد السنة إلى الوحي، فالقرآن الكريم هو الوحي المتلوّ، كلام الله تعالى المعجز المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل الأمين، المتواتر لفظه جملة وتفصيلاً، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، والسنة وحي غير متلوّ لا يتعبد بتلاوتها، وقد أوجب الله تعالى علينا طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى الرسول قائلاً: «وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى»، (سورة النجم). ومن هنا كان الوحي قسمين: أحدهما وحي متلوّ، وهو القرآن الكريم، والثاني وحي منقول غير معجز، وهو الوارد عن الرسول المبين عن الله عز وجل مراده منا، وهذا بيان واضح في قوله عز وجل: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»، (سورة النحل).
وحي غير متلوّ
لقد أوجب الله تعالى طاعة ما جاء في السنة كما أوجب طاعة ما جاء في القرآن الكريم ولا فرق بينهما، فالقرآن والسنة مصدران تشريعيان متلازمان، لا يمكن الفصل بينهما، ولا يمكن لمسلم أن يفهم الشريعة إلا بالرجوع إليهما معاً، ولا غنى لمجتهد عن أحدهما بالآخر.
ويؤكد المفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة رحمه الله في كتابه «حقائق وشبهات حول السنة النبوية» أن السنة، هي وحي غير متلوذ، على مر تاريخ الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، وقد نهضت السنة النبوية بدور المصدر الثاني من مصادر التشريع - إذ المصدر الأول هو القرآن الكريم -.. وبهذا الاعتبار، حظيت السنة باهتمامات فكرية وخدمات علمية، يسرت للأمة الاستفادة منها في هذا الميدان، ميدان التشريع، والفقه، والقانون.
كذلك، حظيت السنة النبوية بجهود علمية متميزة وربما غير مسبوقة في الفكر الديني والحضاري لدى الأمم الأخرى بميادين التوثيق.. والإسناد.. الرواية والجرح والتعديل للرجال الذين رووها ودوّنوها، حتى ليمكن للحضارة الإسلامية أن تفاخر بالمناهج والتطبيقات التي تبلورت علماً شامخاً في توثيق النصوص والمأثورات والمرويات، وهو علم يمكن أن يتعدى حدود السنة إلى ميدان التاريخ. وإلى حد ما، حظيت السنة النبوية الشريفة بجهود علمية في ميدان «الدراية»، والكشف عن علل المتن ومقارنة المرويات، وخاصة في عرض الأحاديث على محكم القرآن الكريم، وهي جهود تحتاج إلى المزيد من المتابعات والإضافات.
كنوز السنة
لكن هناك ميادين في علوم السنة النبوية، تحتاج إلى ريادات بحثية، لأنها لاتزال بكراً حتى الآن، ومنها الكشف عما في السنة النبوية من مصادر للمعرفة الإنسانية، وخاصة في ميدان السنن والقوانين الإلهية وسنن وقوانين المجتمع الديني، والتقدم والتراجع، والتجديد والجمود، والنهوض والانحطاط، فإسلامية المعرفة الاجتماعية والإنسانية تستلزم النظر إلى السنة النبوية بهذا الاعتبار، وبقدر ما تتزايد حاجات أمتنا إلى فقه النهضة، والوعي بسنن الإقلاع الحضاري، بقدر ما تتزايد حاجات العقل المسلم كي يدرك ما في السنة النبوية من كنوز في هذه الميادين.
لقد درج الكثيرون - بل الجميع - على الحديث عن أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وهذا حق لا ريب فيه. ولكن.. آن الأوان للعقل المسلم أن يدرك ويعلن أن السنة النبوية، باعتبارها البيان النبوي للبلاغ القرآني، قد غدت بمثابة خيوط النسيج الذي كون ويكون علوم الحضارة الإسلامية الشرعية منها والمدنية، الاجتماعية منها والإنسانية، علوم المقاصد وعلوم الآليات، بل وحتى فلسفات التطبيقات للعلوم الطبيعية والدقيقة والمحايدة أيضاً فهي بمثابة الهواء الذي حمل القرآن الكريم إلى الفضاء الذي تمدد فيه الإسلام، ويتنافس فيه المسلمون.
روح الحضارة الإسلامية
لقد مثل الوحي القرآني، الذي نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم النواة التي مثلت جماع ثوابت الإسلام وكلياته، والتي كانت بمثابة الشجرة، التي تفرعت منها وانبثقت عنها روح الحضارة الإسلامية، والمدنية الإسلامية، والثقافة الإسلامية، فضلاً عن معايير القيم والأخلاق، والعادات والتقاليد والأعراف.
ولو أننا تصورنا الوحي القرآني في صورة «الحجر»، الذي ألقي به في «بحيرة الحياة الإسلامية»، فإن هذا «الحجر» قد انداحت من حوله العديد من الدوائر، وكانت أولاها دائرة السنة النبوية، التي مثلت البيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، حيث فصلت مجمله، وأوضحت إشارته، وجسدت مقاصده، وأفصحت عن مراميه، وحولته إلى حياة حية وواقع معيش، وإلى سجايا وقيم وأخلاق تحكم كل شؤون الإنسان: الفرد والمجموع والاجتماع، الذات والآخر، في الدين والدولة، في الدنيا والآخرة على السواء، حتى إننا لو تخيلنا الحياة الإسلامية في جميع ميادينها قطعة نسيج، فإن هذا النسيج إنما يكون من خيطين أساسيين (القرآن والسنة) فمن خيوطهما تكون (السدى) و(اللحمة) في هذا النسيج، وهذه الحياة.