الخير العالمي المشترك

03:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

الخير سيظل شعاراً فضفاضاً في ظل غياب نظام دولي توافقي يملك قواعد ملزمة لكل الأطراف تسمح ببلورة استراتيجيات واقعية قابلة للتطبيق.

تطرح المجتمعات في زمن الكوارث والأمراض والأوبئة أسئلة كثيرة بشأن قدرة الإنسان على التضامن من أجل تحقيق المصلحة المشتركة التي يمكنها أن تفضي إلى إنقاذ البشرية، لأنه إذا كان من الخصائص العامة للجائحة أنها تنتشر بين الدول دون استئذان، فإن البحث عن الخير المشترك وعن المصلحة العامة للشعوب يتطلب توافر إرادة سياسية عالمية وإحساساً كبيراً بالمسؤولية الجماعية من أجل الدفاع عن الحق المشروع في الحياة بالنسبة للإنسان والطبيعة التي هي جزء من المحيط البيئي لهذا الكوكب، الذي تكاد أن تضيق أرضه بما رحبت بفعل جشع وأنانية الإنسان وهيمنة قوانين السوق على قيم الثقافة والطبيعة.

لقد ساد نقاش واسع خلال الشهور الماضية بشأن الخصائص العامة للجائحة وأكدت مجمل المقاربات أن الفيروس القاتل لا يفرِّق في انتشاره داخل المجتمعات والدول بين الأفراد على أساس العرق واللون أو الانتماء الطبقي، حتى وإن كانت أضراره في الولايات المتحدة الأمريكية على السود قد فاقت تأثيراته في البيض لأسباب تتعلق بالمنظومتين الصحية والاقتصادية السائدتين في هذا البلد. كما أكدت هذه المقاربات أيضاً أن اللقاح الذي يجري تطويره لن يمارس الإنصاف نفسه الذي مارسته الجائحة في انتشارها وسيكون من ثمة متاحاً للبعض دون البعض الآخر، إذ إنه في اللحظة التي قدمت دول غنية طلبات مسبقة للحصول على اللقاح بمجرد إنتاجه، فإن الدول الفقيرة ما زالت تنتظر صحوة الضمير العالمي من أجل إنقاذها من كوارث ناجمة عن عولمة لم يكن لها أي دور في رسم معالمها.

ونستطيع أن نلاحظ أن حالة انعدام الإنصاف باتت تمس الدول الغنية نفسها لاسيما الغربية منها، فقد أثار تصريح سابق لمدير شركة سانوفي لصناعة الأدوية الذي أكد من خلاله أن الولايات المتحدة ستكون أول مستفيد من اللقاح بعد صناعته لكونها تعد أكبر مموِّل للأبحاث في الشركة، ردة فعل قوية من طرف الرئيس الفرنسي، كما دفع ذلك 4 دول أوروبية هي ألمانيا، فرنسا، إيطاليا وهولندا إلى العمل على تأمين حاجياتها من اللقاح المنتظر من خلال إبرام عقد مع شركة أسترا زينيكا التي ستنتج حوالي 400 مليون جرعة من اللقاح المضاد لكورونا، وبالتالي فمن غير الواضح حتى الآن إن كانت الدول المصنعة ستلتزم بتعهدها بجعل اللقاح متوفراً لكل دول العالم.

ويمكن القول إنه بالرغم من مرور الوقت وتعاقب السنين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي شهدت مقتل الملايين من البشر بسبب الحرب والجوع والمرض، إلا أنه لا يبدو أن المجتمعات تتوجّه نحو ترسيخ قيم الخير العام أو الخير المشترك بالنسبة للبشرية، فبعد عقود قليلة من التعاون الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولي وتعددية الفاعلين في المشهد العالمي بناء على تحالفات هشة وظرفية؛ عادت مؤخراً أنانية الدول لترخي بظلالها على العلاقات الدولية لاسيما بعد وصول ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة ورفعه شعار أمريكا أولاً.

وبموازاة سيادة هذه الوضعية المُحبِطة المتعلقة بغياب العدل والإنصاف في السياسة الدولية، فإن بعض مفكري البيئة ينظرون إلى الجائحة بوصفها فرصة سمحت بلفت الأنظار إلى الجرائم التي يرتكبها الإنسان المعاصر ضد الطبيعة اعتماداً على ترسانته الصناعية والتكنولوجية وقوى السوق التي يتحكم فيها؛ لذلك فإن هذه الجائحة يجب أن تقودنا بحسب عالم الأنثروبولوجيا فليب دِسكولا إلى بلورة مشروع قيادة سياسة حقيقية خاصة بكوكب الأرض تؤدي إلى تقليص الأضرار التي يلحقها الإنسان بالبيئة، والتي تزايدت بفعل هذه الجائحة وذلك فضلاً عن تأثيرها السلبي على النسق الرأسمالي العالمي، وبالتالي فإن الفلسفة البيئية لدِسكولا قادته إلى الاستنتاج في الأخير أننا قد تحولنا نحن البشر إلى فيروس بالنسبة لكوكب الأرض.

ونستطيع أن نؤكد مع تيري دو مونتبريال - تأسيساً على ما تقدم- أن التحديات الراهنة باتت تفرض على البشرية أن لا تقتصر على الحديث عن الخير المشترك وما يستدعيه من أشياء ضرورية على المستوى الأخلاقي، من منطلق أن هذا الخير سيظل شعاراً فضفاضاً في ظل غياب نظام دولي توافقي يملك قواعد ملزمة لكل الأطراف تسمح ببلورة استراتيجيات واقعية قابلة للتطبيق تتجاوز مجرد مسألة توفير اللقاح وتساهم في بناء منظومة تعاون دولي من أجل الوقاية من الأمراض والأوبئة والحروب وكل ما يهدد الإنسان والطبيعة؛ وهو ما يبدو الآن أمراً مستبعداً في عالم تظل فيه الاتفاقيات الدولية - ومن بينها اتفاق باريس حول المناخ- حِبراً على ورق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"