لم تكن الحفاوة التي تحظى بها القراءة في كل العصور، مجرد لحظة رومانسية، يتحدث بها عابر سبيل، ثم يمضي، بل كانت على الدوام تلك الساحرة، والفاتنة، والأثيرة، لأنها نافذة الفهم والإدراك، وبوابة المعرفة، والتطور، والأخلاق، والتسامح، والحب، ولأنها بكل تأكيد ابنة الثقافة، ومرآة المعجزة، والتطهير، ونقاء الذات.
وفي سيرة الكثير من الكتاب الكبار، كانت هناك دائماً لحظات تستحق التوقف عندها، بما فيها من دهشة، وعشق للقراءة بلغ حدود الغرابة.
لقد كان كل واحد من هؤلاء الكتاب صاحب طقس خاص في القراءة، طقس يتناغم مع إيقاعه الخاص، ويندمج مع اكتشافاته الهائلة، والفريدة، وقدرته على تجاوز ما هو مختلف، ومتميز، إلى الدرجة التي كان بعضهم يتحمل ألماً جسدياً شديداً يرافقه عدة أسابيع، وربما أشهراً، وهو في صحبة الكتاب.. ومن الأمثلة على ذلك، أن دوستويفسكي كان يقرأ الرواية التي يكتبها بصوت عال حتى يحفظها عن ظهر قلب قبل أن ينتهي من كتابتها.
هي القراءة إذاً، من وصفت بقدرتها على علاج الروح، من عرفتها الحضارات والشعوب القديمة من رومانية، ويونانية، وفرعونية، هي وليس غيرها ذات القدرة العجيبة على تعديل السلوك البشري وتعزيز الإيجابية، من تحرض دوماً على الجمال، فتفتح غوامض الأسرار، والحجب، وتضيء بوابات الفرح، والبهجة، والأنوار.
هي القراءة، من تفسر الظواهر، وتحفز على البحث والتأمل، من تريح الوجدان، وتشعل المخيلة، بحروفها، وعباراتها، وجملها الطائرة في الفضاء، فتبدد من خلالها عوالم العزلة، والكآبة، والإحباط، فتدفع إلى الوعي، والتبصر، والحلم.
قيل أن قدماء اليونان استخدموا القراءة في علاج الحالات النفسية الحادة، كما يرد على لسان بعض الباحثين أن تاريخ العلاج بالقراءة يعود إلى الفراعنة الذين عرفوا تأثيرها، وقوتها، فكانت الأشكال البدائية للمكتبات الفرعونية القديمة التي بنيت داخل المعابد «أماكن» روحية، ذات قوى خارقة، يحج إليها المرضى والمتعبون، فيجدون فيها، وبواسطتها، ومن خلال حروفها ورموزها وصورها، ما يدفع المرضى إلى شفاء نفوسهم العليلة، وأجسادهم المعطوبة، والمضطربة، ظهر ذلك أيضاً في مكتبات بابل، وآشور، أما عند الرومان، فكانت القراءة وسيلة لمعالجة الجنود وضحايا الحروب من المرضى، والمتعبين.
هي القراءة، رحلة في تاريخ الإنسان، فأي مجد تستحقه في هذه الأيام العصيبة، التي يعيشها العالم اليوم؟
هي القراءة، وليس «مجازاً» أن يقال «إنها غذاء للروح»، فها هي «تاج» مرصع بالجواهر في كتب التاريخ، والشعر، والمسرح، والروايات الهائلة، وها هي «إكليل» في العلوم، وفي أبجديات التأمل، والبراعة، والتحضر.
فلنعد إلى القراءة، إلى وهجها، ومجدها، وأفكارها، وقوتها الساحرة.