في مديح القراءة

03:20 صباحا
قراءة دقيقتين
عثمان حسن

لم تكن الحفاوة التي تحظى بها القراءة في كل العصور، مجرد لحظة رومانسية، يتحدث بها عابر سبيل، ثم يمضي، بل كانت على الدوام تلك الساحرة، والفاتنة، والأثيرة، لأنها نافذة الفهم والإدراك، وبوابة المعرفة، والتطور، والأخلاق، والتسامح، والحب، ولأنها بكل تأكيد ابنة الثقافة، ومرآة المعجزة، والتطهير، ونقاء الذات.

وفي سيرة الكثير من الكتاب الكبار، كانت هناك دائماً لحظات تستحق التوقف عندها، بما فيها من دهشة، وعشق للقراءة بلغ حدود الغرابة.

لقد كان كل واحد من هؤلاء الكتاب صاحب طقس خاص في القراءة، طقس يتناغم مع إيقاعه الخاص، ويندمج مع اكتشافاته الهائلة، والفريدة، وقدرته على تجاوز ما هو مختلف، ومتميز، إلى الدرجة التي كان بعضهم يتحمل ألماً جسدياً شديداً يرافقه عدة أسابيع، وربما أشهراً، وهو في صحبة الكتاب.. ومن الأمثلة على ذلك، أن دوستويفسكي كان يقرأ الرواية التي يكتبها بصوت عال حتى يحفظها عن ظهر قلب قبل أن ينتهي من كتابتها.

هي القراءة إذاً، من وصفت بقدرتها على علاج الروح، من عرفتها الحضارات والشعوب القديمة من رومانية، ويونانية، وفرعونية، هي وليس غيرها ذات القدرة العجيبة على تعديل السلوك البشري وتعزيز الإيجابية، من تحرض دوماً على الجمال، فتفتح غوامض الأسرار، والحجب، وتضيء بوابات الفرح، والبهجة، والأنوار.

هي القراءة، من تفسر الظواهر، وتحفز على البحث والتأمل، من تريح الوجدان، وتشعل المخيلة، بحروفها، وعباراتها، وجملها الطائرة في الفضاء، فتبدد من خلالها عوالم العزلة، والكآبة، والإحباط، فتدفع إلى الوعي، والتبصر، والحلم.

قيل أن قدماء اليونان استخدموا القراءة في علاج الحالات النفسية الحادة، كما يرد على لسان بعض الباحثين أن تاريخ العلاج بالقراءة يعود إلى الفراعنة الذين عرفوا تأثيرها، وقوتها، فكانت الأشكال البدائية للمكتبات الفرعونية القديمة التي بنيت داخل المعابد «أماكن» روحية، ذات قوى خارقة، يحج إليها المرضى والمتعبون، فيجدون فيها، وبواسطتها، ومن خلال حروفها ورموزها وصورها، ما يدفع المرضى إلى شفاء نفوسهم العليلة، وأجسادهم المعطوبة، والمضطربة، ظهر ذلك أيضاً في مكتبات بابل، وآشور، أما عند الرومان، فكانت القراءة وسيلة لمعالجة الجنود وضحايا الحروب من المرضى، والمتعبين.

هي القراءة، رحلة في تاريخ الإنسان، فأي مجد تستحقه في هذه الأيام العصيبة، التي يعيشها العالم اليوم؟

هي القراءة، وليس «مجازاً» أن يقال «إنها غذاء للروح»، فها هي «تاج» مرصع بالجواهر في كتب التاريخ، والشعر، والمسرح، والروايات الهائلة، وها هي «إكليل» في العلوم، وفي أبجديات التأمل، والبراعة، والتحضر.

فلنعد إلى القراءة، إلى وهجها، ومجدها، وأفكارها، وقوتها الساحرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب وشاعر وصحفي أردني، عمل في الصحافة الأردنية / في القسم الثقافي بجريدة الدستور ، ويعمل اليوم محررا في جريدة الخليج الإماراتية / القسم الثقافي، صدرت له عدة كتب في الشعر بينها: "ظلال" ، وردة الهذيان / ، وكبرياء الصفة / ، كما صدر له كتاب في الإمارات بعنوان "محطات حوارية مع وجوه ثقافية إماراتية" .
له كتاب مترجم غير منشور/ قصائد عن الإنجليزية، نشرت بعض هذه القصائد في "ثقافة الدستور" وفي مواقع إلكترونية محكمة مثل موقع "جهة الشعر.
شارك في أماسي وملتقيات شعرية عربية كثيرة، وقد قدمت حول نتاجاته الأدبية الكثير من القراءات النقدية.
عضو رابطة الكتاب الأردنيين ، وعضو نقابة الصحفيين الأردنيين.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"