انهيار المشرق العربي

04:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تحولات هائلة طالت دول المشرق، وفي مقدمتها أن ما كان يُسمى ب«الدولة الوطنية» تحتاج اليوم إلى إعادة تعريف

المشرق العربي ليس في أزمة عادية؛ بل إن ما وصل إليه من أوضاع تقول: إنه في حالة انهيار، وأننا أمام ثلاث دول (العراق وسوريا ولبنان) تواجه خطر الاضمحلال الكياني، ليس فقط لكونها تعاني وطأة التدخلات الأجنبية المباشرة في قرارها السيادي؛ بل لأنها بعد سنوات من تلك التدخلات، تعاني اليوم هشاشة غير مسبوقة في بنى الدولة ومؤسساتها، حتى تكاد الدولة نفسها هي الغائب الأكبر عن المشهد.

معاناة مستمرة لهذه الدول الثلاث مع قطاع رئيسي وحيوي صناعياً وخدمياً ومعيشياً مثل: الكهرباء، فلبنان استمرت فيه هذه الأزمة منذ الحرب الأهلية، وعلى الرغم من تعاقب الحكومات، والكثير من المساعدات الخارجية، فإن الأزمة فيه مضت من سيئ إلى أسوأ، وإذا كان هناك بعض التبريرات الحكومية حول ضعف الاقتصاد، وتأثير مشكلات الإقليم عليه، ما يجعل من معالجة أزمة الكهرباء، والأزمات الخدمية الأخرى، وبشكل جذري، أمراً صعباً، فإن العراق الذي يحتوي على نحو 112 مليار برميل من النفط، يعاني أزمة مشابهة، وكذلك الأمر في سوريا؛ حيث أكلت الحرب الموارد المالية للدولة، في ظل استعصاء الحلول السياسية؛ بل غيابها.

مثال الكهرباء واحد من عشرات الأمثلة التي تطال وتكشف تدني مستوى الخدمات الأساسية؛ لكنها في الوقت ذاته، تشير إلى تحولات هائلة طالت دول المشرق، وفي مقدمتها أن ما كان يُسمى ب«الدولة الوطنية» تحتاج اليوم إلى إعادة تعريف، فالواقع الراهن يؤكد عدم قدرة القوى السياسية، على اختلاف مشاربها الأيديولوجية، على بناء تفاهمات رئيسية، حول ضرورة المحافظة على مستوى «وطني» من الدولة، أي المستوى الذي يحمي الدولة نفسها من التفتت، أو المزيد من التفتت.

الصراع على السلطة هو مسألة سياسية مفهومة؛ إلا أن هناك حدوداً في أي صراع، ثمة خطوط حمراء، هي الخطوط الوطنية، وغياب تلك الحدود؛ يجعل من الصراع على السلطة صراعاً عدمياً، صراع الكل ضد الكل، بتعبير الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679)؛ حيث يصبح الهدف الرئيسي لأي طرف سياسي إبادة الطرف الآخر، بشكل نهائي، ومحوه عن خريطة الوجود، من دون أي اعتبارات أخلاقية وإنسانية ووطنية.

السياسة بمعناها الحديث هي شكل من أشكال الممارسة العقلانية؛ بل إن السياسية الحديثة ولدت من خلال العقلانية، فلم تعد ممارسة عفوية، أو احتكاماً مطلقاً لقانون الغلبة؛ بل إمكانية إدارة المصالح، وفي مقدمتها خير الصالح العام، الذي يعطي للسياسة، وللقوى السياسية، شرعية تمثيل القوى الاجتماعية، وإلا فإن القوى السياسية تصبح مجرد خاطف رهائن للقوى الاجتماعية، ومستعدة أن تغامر، باسم من تمثلهم، في حروب لا طائل منها، حتى لو أدى ذلك إلى أذية الفئات الاجتماعية نفسها، وإضعاف وجودها، ونسف رصيدها الرمزي، وتحميلها كلفة الخسائر البشرية والمادية.

منذ عام 2003، لم يتمكن العراق من مراكمة عمل سياسي داخلي، من شأنه بناء أطر جديدة للهوية الوطنية من جهة، وبناء مستوى ثابت ومستقر لمؤسسات الدولة من جهة أخرى، خصوصاً الجهات السيادية، وفي مقدمتها المؤسسات المسؤولة عن احتكار السلاح، فعراق اليوم هو ساحة لانتشار السلاح بين أيدي جميع الأطراف السياسية، من دون أن يكون للدولة أي قدرة على ضبط هذا السلاح، أو العمل على احتكاره، فجميع القوى السياسية غير مستعدة للتخلي عن سلاحها؛ لأنه يضمن لها وجودها، وحصصها من الامتيازات والمناصب، وهو ما يعكس غياب الوطنية العراقية.

ما ينطبق على العراق، ينطبق بهذه الدرجة أو تلك على سوريا ولبنان، ومن غير الواضح وجود أي أفق لإحداث تغييرات كبرى في المدى المنظور، أو حتى في المدى المتوسط، فلم تعد المشكلة فقط في القوى السياسية المحلية في كل دولة على حدة؛ بل في مستوى التحكم والنفوذ الذي تمارسه القوى الإقليمية والدولية، والتي تعتمد على القوى المحلية في صراعها مع بعضها، ومن الواضح أكثر أنه ما من أفق لنهاية الصراعات الإقليمية والدولية؛ بل إن رقعة هذه الصراعات في ازدياد، وأسباب التناحر تصبح أكثر تعقيداً.

يدفع المشرق العربي أثماناً باهظة لسياساته الداخلية بالدرجة الأولى لكنه أيضاً يدفع ثمن اضطراب النظامين الإقليمي والدولي؛ بل إننا دولياً، أمام غياب نظام متفق عليه، يمكن أن يشكل مرجعية للتفاوض والحلول، كما في حالات عديدة خلال الحرب الباردة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"