حتمية ثقافية

04:54 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

نحن نتطور في كل الأحوال بحكم التوسع الهائل لشبكات الاتصالات في عالم انتشرت فيه المعلومة والسرعة وعالم التفاعلية، والعلاقة الجديدة من حيث الزمن والمجال، كما يؤكد ريمي ريفيل في مؤلفه «الثورة الرقمية ثورة ثقافية». السؤال الكبير يولد أسئلة أكبر، فالتغيير الذي أحدثته المبتكرات التكنولوجية القائمة على فكر ثوري في المنظور والطريقة تم استثماره لخدمة مفاهيم ترسخ نمطاً أحادياً وإن بدى ملوناً حسب ما يدعي أصحابه، وفي ظل هذه الوحدة الظاهرية يبدو العالم بقراه الصغيرة أكثر عزلة وانقساماً من أي وقت مضى.
إن دوائر التأثير تجاوزت الفعل إلى الفكر، وبعد أن خرج الفرد من عزلته ليكون مساهماً في المجموع بفعل ثورة الطباعة ها هو يرتد إلى حصار من نوع جديد يبدو فيها متحكماً بمصيره وحراً في خياراته، ليفاجأ بأنه يعيش كرقم يمكن مضاعفته، واستثمار بياناته ومشاعره لخدمة أغراض تتغير بتغير الأهواء الاقتصادية والسياسية.
هذا الفرد الذي أصبح مستهلكاً حتى وإن بدا أنه منتج في بعض الفرص يؤثر في صناعة ثقافية جديدة سمتها الأولى السطحية. وفي حين تبدو المنصات التي تكتظ بنا مساحات للتحرر من أسئلتنا الصعبة إلا أنها مجرد أدوات خنق للثقافة الإنسانية تحت شعار العالمية، فهنا تشوه الهويات المحلية بدعوى الحرية، ويتمدد الوهم بالمعرفة كبالون لينفجر في وجوه من يظنون للحظة أنهم العارفون بكل شيء، وهنا تصنع تحزبات بغيضة، وتطلق شعارات لا تمت للسلام ولا التسامح بصلة.
هل كان كل ذلك حتمياً؟ وهل تدخلت الوسيلة في صياغة نوع جديد من الوعي المتفكك والمتنصل من جذوره؟ آمن مارشال ماكلوهان بذلك وسجله في كتابه «فهم وسائل الإعلام» ورداً عليه قيل إن الغلبة للقيمة، لكن أي قيمة تلك التي نركن إليها، وهناك أجيال كاملة تصطدم بالتناقض الفاضح الذي بات يفيض من الشبكة، فاضطرت للهرب إلى نوع جديد من التمرد، سمته اللامبالاة.
إن الثقافة التي نطمح للرهان عليها في تحقيق غلبة إنسانية عليها أن تكون إنسانية ومكتسبة من فطرتنا السليمة ومتفقة مع الأسرة والحي والمدرسة، تطورية من خلال الممارسة والتطبيق، تكاملية تشبع حاجات الإنسان وتخفف ألمه وتساعده على صياغة الأسئلة الصحيحة، استمرارية تنبع من وجود المجتمع وعطائه وتكافله، وانتقالية وقابلة للانتشار عبر الأجيال والأمم الأخرى. ولكن السؤال الذي يجبرنا على التوقف هو: بأي لغة وبأي أسلوب وعبر أي منصة يمكن أن تتحقق هذه الحتمية الثقافية؟


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"