ما أشبه الليلة بالبارحة

04:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

عندما ضعفت الخلافة الأموية في الأندلس، ودخلت الأخيرة في عصر ملوك الطوائف، وصف أحدهم الحالة التي وصلت إليها الأمور في الحواضر والمدن، والتي كانت من قبل تعج بالثقافة والتقدم الحضاري، بأنها كانت «شداداً نكدات، صعاباً مشؤومات، لا فُورِق فيها خوف، ولا تم سرور، مع اشتغال الفتنة، وخرق الهيبة، وظعن الأمن، وحلول المخافة».
إنها صورة كالحة حزينة تصلح لأن توصف بها أحوال الوطن العربي في عصره المأساوي الذي يعيشه في اللحظة الحالية. تلك كانت الصورة في مدن من مثل قرطبة وأشبيلية وغرناطة، وهي الصورة نفسها في كثير من مدن أقطار اليمن وسوريا وليبيا والعراق على سبيل المثال.
ما يهمنا ليس التماثل في الصورة وإنما التماثل في ما وراء الصورة من مسببات وعلاقات مريضة وتخيلات خاطئة.
في تلك الحقبة كثرت الفتن والمكائد والدسائس السياسية والأمنية، وتلك قادت إلى تولي واصطناع سفلة القوم مناصب الحكم، وتميزت الحياة السياسية بالتغيرات المتسارعة في صعود وهبوط الأقليات وبانتشار الخيانات والاغتيالات، وبالتحالف مع الخارج من ملوك النصارى المهاجمين وزعماء مختلف الطامعين.
وبالطبع بقيت الأنشطة الاقتصادية خاضعة وخادمة للحياة السياسية، وبالتالي، كما هو حال السياسة آنذاك، غير مستقرة. ولما كانت الثروة ريعية في الدرجة الأولى وجبائية بالقوة والسطوة والإكراه عند اللزوم، فإنها استعملت لشراء الولاءات وإسكات المعارضات وعيش حياة بذخ القصور، وهذا بدوره جعل الاقتصاد استهلاكياً غير مرتبط بهياكل ومؤسسات ثابتة خارج تلاعبات ومغامرات السياسة.
ولذلك فما كان بمستغرب أن تضعف الخلافة شيئاً فشيئاً وتنتهي إلى تقاسم الأندلس فيما بين ملوك الطوائف المتصارعين، المتآمرين على بعضهم البعض، المتعاونين مع الخارج لحسم مناكفات وصراعات الداخل.
وبالطبع ما كان بإمكان مركز الخلافة في بغداد أن يمد يد المساعدة بأية صورة من الصور، إذ كانت الخلافة العباسية هي الأخرى تعيش محن الفتن وتدخلات قوى الخارج وتراجع الحياة على كل مستوى.
ما أشبه الليلة بالبارحة. فكل مجالات الحياة عبر الوطن العربي بأكمله، إما أنها وصلت إلى صورة البؤس التي وصلت إليها كل مجالات الحياة في الأندلس، وإما أنها قابلة، عند توفر الظروف الملائمة، للانتقال من حالة الخمول والترقب والشلل التي تعيشها الآن إلى الحالة البائسة التي عاشها الأندلسيون في نهاية زخمهم الحضاري الذي كان مثار إعجاب المحبين والكارهين على السواء.
الصورة الحاضرة هي الصورة الماضية، ولكن الاختلاف هو في التفاصيل. بدلاً من تناحر القبائل لدينا تناحر همجي فيما بين أقطار الوطن العربي، وبدلاً من الاحتماء بالإفرنج الغزاة لدينا من ينشد الاحتماء بالاستعمار الأمريكي والغزاة الصهاينة.
إذا كان شباب وشابات الأمة يريدون أن يتعرفوا على ما ينتظرهم في المستقبل، وما عليهم أن يستعدوا لمواجهته ودحره منذ الآن، فليقرأوا بتمعّن تاريخ الأندلس. فمثلما ضاعت في الماضي حضارة نشطة رائعة بفعل السخافات والبلادات والصراعات العبثية والانقسامات المجنونة، هناك إمكانية أن نضيع، نحن عرب اليوم، نضالات هائلة وتضحيات جسام بذلت عبر قرنين من الزمن، وذلك بسبب ارتكاب بعضنا لسخافات وبلادات وصراعات وانقسامات مجنونة تهدد محاولات نهوض الجميع من تخلفنا الحضاري المعيب.
هل كان باستطاعة أهل الأندلس تجنب مصيرهم ومصير حضارتهم المأساوي؟ الجواب هو «نعم». كان بالإمكان لو توفرت شروط كثيرة لا تسمح محدودية المقال بالدخول في تفاصيلها. ما يهمنا هو أن نتجنب نحن مثل ذلك المصير المفجع بسبب الجحيم الذي يعيشه الوطن العربي.
هناك كتابات وأقوال كثيرة حول هذا الموضوع، وحول سبل الخروج، يحتاج شباب وشابات الأمة إلى أن يدرسوها بتمعن وباستيعاب بدلاً من تركيز كل وقتهم، أو جلّه، في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي العربية والأجنبية، بالرغم من أهميتها. وهم بحسّهم النضالي يعرفون ما أعني بالضبط.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"