الخوارزمي.. الفلكي البارع ومؤسس علم الجبر

قامات إسلامية
01:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

قدم عدد من العلماء المسلمين إسهامات عديدة في العلم، في مختلف المجالات على فترات متعاقبة من الزمن، كل على حسب اهتماماته، سواء كانت علمية تطبيقية أو دينية أو لغوية أو فلسفية أو اجتماعية. فقد قدم ابن سينا كتاب «القانون في الطب» الذي أضحى مرجعاً أساسياً في الطب لفترات طويلة، كما أن ابن خلدون هو أول من تكلم عن علم العمران، ويعد بذلك مؤسس علم الاجتماع الحديث، ويعد ابن الهيثم أحد رواد المنهج العلمي والمؤسس الأول لعلم المناظر، وكذلك كان الخوارزمي من أهم العلماء الذين وثقوا مجدهم في تأسيس العلوم، فهو العالم الموسوعي، الذي عدل نظريات علم الحساب اليونانية الخاطئة، وأسس علم الجبر.


خزانة المأمون


تشير روايات عدة إلى أن عائلة «الخوارزمي»، انتقلت من مدينة خوارزم إلى بغداد في العراق، والبعض ينسبه للعراق فقط، ويسميه الإمام الطبري في تاريخه: محمد بن موسى الخوارزمي القطربلي، نسبة إلى قرية قطربل من ضواحي بغداد، وتشير بعض الموسوعات العلمية إلى أنه عربي، في حين تشير مراجع أخرى إلى كونه من أصول فارسية، وفي الإصدار العام للموسوعة البريطانية تذكر أنه «عالم مسلم» من دون تحديد قوميته.
أقام الخوارزمي في بغداد، حيث ذاع اسمه وانتشر صيته بعدما برز في الفلك والرياضيات، وانتمى إلى (دار الحكمة) التي كانت بمثابة أكاديمية بحثية علمية مرموقة في ذلك الزمان، وأصبح من العلماء الموثوق بهم، وأكرمه الخليفة المأمون، فعينه على رأس خزانة كتبه، وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها، وأنجز معظم أبحاثه في (دار الحكمة).
استفاد الخوارزمي من أمهات الكتب التي ضمتها خزانة المأمون، والتي تنوعت موضوعاتها وتعدد مؤلفوها، وفيها الكثير من المترجمات عن علوم الأمم الأخرى، فدرس الرياضيات، والجغرافيا، والفلك، والتاريخ، إضافة إلى إحاطته بالمعارف اليونانية والهندية، ونشر كل أعماله باللغة العربية، التي كانت لغة العلم في ذلك العصر، وتُرجمت فيما بعد إلى عدة لغات أوروبية، ودُرِّست في الجامعات الأوروبية لعدة قرون.


عالِم عالَمي


يعد الخوارزمي، أحد مشاهير العلم ليس في الدائرة الإسلامية فقط بل في العالم كله، وقد تعددت جوانب نبوغه، فهو واضع أسس الجبر الحديث، وترك آثاراً مهمة في علم الفلك، وغدا مرجعاً لأرباب هذا العلم، وفي هذا الصدد يقول ألدو مييلي: «إذا انتقلنا إلى الرياضيات والفلك فسنلتقي، منذ البدء، بعلماء من الطراز الأول، ومن أشهر هؤلاء العلماء أبو عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي».
ويعزو كثيرون نهضة أوروبا في علوم الرياضيات إلى مساهمات الخوارزمي، وانطلقت النهضة العلمية الغربية مما أخذه عنه العلماء الغربيون، ولولاه لكانت تأخرت هذه النهضة وتأخرت المدنية زمناً طويلاً، حيث من الثابت علمياً أن الرياضيات في كل العصور هي الأساس لكل الاختصاصات العلمية والأكاديمية والتكنولوجية، ولا يمكن الاستغناء عنها، وتعتبر الأبجدية التي تتأسس عليها علوم الكيمياء والفيزياء والهندسة والاتصالات والتكنولوجيا بكل أشكالها التي قادت تطور الحضارة الإنسانية.
ألف الخوارزمي في الحساب، وألف في الجبر، وهو أول من فصل بين علمي الحساب والجبر، كما أنه أول من عالج الجبر بأسلوب منطقي علمي، وأطلع الناس على الأرقام الهندية، وطبع علم الحساب بطابع علمي لم يتوافر للهنود الذين أخذ عنهم هذه الأرقام، وترك العديد من المؤلفات في علوم الفلك والجغرافيا، فبالإضافة إلى إسهاماته الكبرى في الحساب، أبدع الخوارزمي في علم الفلك وأتى ببحوث جديدة في المثلثات، ووضع جداول فلكية (زيجا)، وقد كان لهذا الزيج الأثر الكبير على الجداول الأخرى التي وضعها العرب فيما بعد، إذ استعانوا به واعتمدوا عليه وأخذوا منه.


«الجبر والمقابلة»


يعتبر الخوارزمي عن حق مؤسس ومبتدع علم الجبر كعلم مستقل عن الحساب، وقد أخذه الأوروبيون عنه، كما أنه أول من استعمل كلمة «جبر» للعلم المعروف الآن بهذا الاسم، فحتى الآن ما زال الجبر يعرف باسمه العربي في جميع اللغات الأوروبية، كما يرجع إليه الفضل في تعريف الناس بالأرقام العربية، ولهذا كان الخوارزمي أهلاً لتسميته بأبي الجبر.
يعد كتاب «الجبر والمقابلة» من أشهر كتبه، وهو الأول من نوعه، وقد ألفه بطلب من الخليفة المأمون. وهذا الكتاب لم يؤدِّ فقط إلى وضع لفظ الجبر وإعطائه مدلوله الحالي، بل إنه افتتح حقاً عصراً جديداً في الرياضيات. وظل كتاب «الجبر والمقابلة» قروناً عديدة مرجعاً في أوروبا، وحققه علي مصطفى مشرفة ومحمد مرسي أحمد، ونشر أول مرة في القاهرة سنة 1939م.
ألف الخوارزمي كتابه بعد أن رأى حاجة الناس إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجارتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم، ويعالج الكتاب المعاملات التي تجرى بين الناس كالبيع والشراء، وصرافة الدراهم، والتأجير، كما يبحث في أعمال مسح الأرض، فيعين وحدة القياس، ويقوم بأعمال تطبيقية تتناول مساحة بعض السطوح، ومساحة الدائرة، ومساحة قطعة الدائرة.


أبو الحاسب الآلي


ابتكر الخوارزمي مفهوم الخوارزمية، وهي مشتقة من اسمه، ويقصد بها «اللوغاريتمات»، وقد كان لها دور كبير في الرياضيات وعلوم الحاسب الآلي حتى وقتنا الحالي، وهي تساعد بشكل كبير في حل المسائل الحسابية بواسطة الحاسب، ولذلك نالت شهرة كبيرة في جميع أنحاء العالم، وبسبب هذا الاكتشاف أطلق عليه لقب «أبو الحاسب الآلي»، وتمت ترجمة المصطلح إلى الإنجليزية ليصبح «algorithm».
أدت أعمال الخوارزمي المنهجية والمنطقية في حل المعادلات من الدرجة الثانية إلى نشوء علم الجبر، حتى أن العلم أخذ اسمه من كتابه «الجبر والمقابلة»، الذي نشره عام 830، وانتقلت هذه الكلمة إلى العديد من اللغات (Algebra في الإنجليزية)، وكانت أعماله الكبيرة في مجال الرياضيات نتيجة لأبحاثه الخاصة، إلا أنه أنجز الكثير في تجميع وتطوير المعلومات، التي كانت موجودة مسبقاً عند الإغريق وفي الهند، فأعطاها طابعه الخاص من الالتزام بالمنطق، وبفضل الخوارزمي، يستخدم العالم الأعداد العربية التي غيرت وبشكل جذري مفهومنا عن الأعداد، كما أنه أدخل مفهوم العدد صفر، الذي بدأت فكرته في الهند.
صحح الخوارزمي أبحاث العالِم الإغريقي بطليموس في الجغرافيا، معتمداً على أبحاثه الخاصة، كما أنه أشرف على عمل سبعين جغرافياً لإنجاز أول خريطة للعالم، وعندما عرفت أبحاثه في أوروبا بعد ترجمتها إلى اللاتينية، كان لها دور كبير في تقدم العلم في الغرب، وكان لكتابه الخاص بالجبر الفضل في تعريف أوروبا بهذا العلم، وصار الكتاب يُدَرَّس في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر.
كتب الخوارزمي أيضاً عن الإسطرلاب، والساعة الشمسية، ولعبت إنجازاته دوراً كبيراً في تقدم الرياضيات والعلوم التي تعتمد عليها، وقد لا يعرف كثيرون أنه بالأصل فقيه حنفي مبرز في الفقه الحنفي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"