في حب الأمل

04:32 صباحا
قراءة دقيقتين

صفية الشحي

كيف يصاغ الوطن عندما يكون أملاً؟ ومن يجيد الكتابة في حب لا يتوقف سيله حتى وإن هدد جريانه تعسف أو جحود أو نسيان؟ في الحقيقة لا أعتقد أن هناك من هو أكثر جرأة على وصف الوطن بالنجمة والعصفور والجبل والأم من شاعر غوايته الأولى هي الحب. لم يدر رسول حمزتوف شاعر داغستان العظيم - بأي الملامح يرى بلاده، فشبهها بالنسر والجبل والنهر العريق والمحيط ولكن ظلت داغستان متفردة في كتابه - بلدي- شامخة في عظمة نسر وجبروت جبل وحياة نهر وعمق محيط.
إذا كان الوطن في معاجم اللغة هو مكان الإنسان ومقره ولد به أم لم يولد، فإنه عند الشاعر موطن وجنة وذاكرة وحنين، فالوطن حيث خطا نحو صباه وصبابته وهو حيث اشتاق وتنهد وعشق وتندر وهجا ومدح وأكرم وذاد، وحيث عاش الأمل وتنفس الأمنية. وعند شاعر مثل الراحل الكبير محمد خليفة بن حاضر المهيري حمل عروبته وقوميته ضميراً حياً في إبداعه ووضع شعره في تصرف الأسئلة الكبرى حول قضايا العرب وهمومهم، عند ابن حاضر فإن مجد العرب وثورتهم على التجهيل والفكر البليد وآيات صمودهم في حواضر الأرض العربية ومناراتها هي الوطن.
قال أعرابي عندما سئل عن الغبطة: الغبطة هي الكفاية مع لزوم الأوطان، ولكن ماذا عن أولئك الذين شردتهم أمهاتهم - أوطانهم - فلم تكفهم غيلة التيه العظيم ولم تترك لهم عشاً ولا جحراً ليلزموه، تلك الأرض التي فطمت أعوادهم وألقت بهم منهكين على شواطئ المنفى؟ هل يحب الشاعر أرضاً غدرت بروحه وخلفته غريباً أم يقطع حبل الحب ويهيم في قصيدته جاراً وراءه خيوط الهزيمة ولبنها المر؟ لقد حمل محمود درويش عبء قلبه وخبأ دمعه للعيد «فالوطن ليس سؤالاً تجيب عنه وتمضي، إنه قضيتك وحياتك معاً». هذا الحب الذي نولد معه قادر على تحويل أي حكاية إلى سفر طويل من الحنين، وقادر على منح الطيور أجنحتها. وهناك طيور بلا وطن ولا أرض، ولدت من رحم التهجير في أراضي اللجوء البعيدة، يطلقها السجان كل صباح إلى مصيرها لكنها تعود كل مساء إلى أقفاصها، تلك طيور علمها السجن كيف تحمل الوطن والمنفى على أجنحتها الصغيرة.
لا يوجد حنين شق مسامع القاصي والداني أكبر من حنين الجواهري الذي ظل في منافيه البعيدة عن العراق ظامئاً ولهاً إلى بساتين دجلة وسفحها وود الحمائم بين الماء والطين، وهو الذي لم يتوقف يوماً عن بث شوقه للفرات وشاطئه وسفحه وحنو نخيله. أوطاننا ليست محض رقع وخطوط طولية وعرضية وحدود، لكنها الفكرة والنهج والجوهر تحمله البشرية منذ بدء الخليقة مفتاحاً للحياة وذريعة للبقاء، وهي أمهات الحياة والنداء الخفي الذي يهمس به عاشق في أذن معشوقته، بل هي صرخة الريح وهدير البحر وسكون السماء قبل العاصفة وبعدها، وهي صوت الأمل نطلقه إلى خارج الحدود، إن تطلب الأمر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"