انفجار صيغة «لبنان الكبير»

03:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

من جديد، فتح الانفجار الهائل في مرفأ لبنان، الباب أمام أسئلة بنيوية وحساسة حول الطبيعة السياسية للكيان اللبناني، ومن الطبيعي بمكان، وأمام مثل هذا الحدث الذي قتل وجرح المئات، وهزّ أبنية العاصمة، تاركاً وراءه أضراراً مادية كبيرة، ومشهداً كارثياً، وصفه مراقبون بأنه يذكر بالدمار الذي ألحقته الحرب الأهلية اللبنانية بالعاصمة، من الطبيعي أن تطرح الأسئلة الكبرى، ليس فقط لهول الحدث، بل أيضاً نتيجة الأوضاع اللبنانية المعقدة والصعبة سياسياً واقتصادياً، وأزمات إقليمية عاصفة.
كشف الحادث، وما تلاه من تصريحات لمسؤولين حكوميين، حالة ارتباك كبيرة في كشف الأسباب الحقيقية للانفجار، لكنه أيضاً كشف عن حجم الفساد الكبير في البنى المؤسساتية، وحجم التنابذ السياسي بين القوى الفاعلة، وطبيعة الاصطفافات التي تقف عائقاً أمام بناء دولة المؤسسات، وهو الأمر الذي لا يزال مستمراً منذ «اتفاق الطائف» في العام 1989.
مرّت مئة عام تقريباً على ولادة صيغة «لبنان الكبير»، وهي التسمية التي أطلقها الفرنسيون على الكيان الذي ضم إلى متصرفية جبل لبنان بعض المدن الساحلية والمناطق الأخرى، وولادة هذا الكيان بصيغته تلك أوجدت منذ البداية مشكلاتها، في وضع ديمغرافي مركب من أديان وطوائف متعددة، وتشكّل نظام سياسي قائم على محاصصة دينية، كان للمسيحيين فيه، بطوائفهم المتعددة، الغلبة النسبية، حيث يظهر إحصاء عام 1932 فارقاً بنسبة أربعة في المئة لمصلحة المسيحيين، ونسبة تفوّق واضحة للموارنة على باقي الطوائف، حيث بلغت نسبتهم 28.8% من مجموع السكان.
وعلى الرغم من مساحته الصغيرة نسبياً (10452 كيلومتر مربع)، قياساً إلى باقي الدول العربية، إلا أن لبنان عرف تيارات سياسية عديدة، كلّ منها اتجهت بأنظارها، وفي إيديولوجيتها، نحو الخارج، في حالة رفض مبطنة للواقع الذي أوجد لبنان الكبير، فمعظم القوى السياسية اللبنانية بقيت تنظر إلى نفسها كجزء من مشاريع إقليمية، بحسب كل فترة زمنية، ونظراً للتركيبة الهشة دينياً وطائفياً، لعب الخارج عاملاً رئيسياً في تقوية أطراف سياسية بعينها، في مواجهة أطراف محلية أخرى، وفي مواجهة قوى إقليمية مضادة.
دامت الحرب الأهلية 15 عاماً، تغيّرت فيها موازين القوى المحلية، وخسر موقع رئاسة الجمهورية معظم صلاحياته لمصلحة رئاسة الوزراء، وهو ما أقرّه «اتفاق الطائف»، مع تقسيم جديد لحصص الطوائف في مختلف مؤسسات الحكومة، من أعلى الهرم الحكومي إلى قاعدته، بما في ذلك مؤسسة الجيش، ومع أن تجربة المحاصصة الطائفية «الديمقراطية التوافقية»، والتي تشبه في تركيبتها الكثير من مثيلاتها في الدول التي شهدت حروباً أهلية، كانت في وقتها حلاً فرضته موازين القوى الداخلية والخارجية، من شأنه إيقاف نزيف الدم اللبناني، وبدء مرحلة جديدة، كان يمكن البناء عليها كفترة مؤقتة، من أجل إعادة بناء الوطنية اللبنانية من جهة، وبناء المواطنية اللبنانية من جهة أخرى.
بعد «اتفاق الطائف» بقي سلاح «حزب الله» خارج إطار احتكار الدولة للسلاح بموجب الاتفاق المذكور نفسه، وعلى الرغم من انسحاب «إسرائيل» من جنوب لبنان في عام 2000، إلا أنه لم يتم التوصل إلى صيغة حول سلاح الحزب.
انفجار مرفأ بيروت ليس مجرد حادث أو تفصيل صغير، وليس فقط مجرد نتيجة لإهمال مؤسساتي، فلبنان اليوم في حالة انفجار تطال كيانه كاملاً، فهو وصل إلى حافة الإفلاس الاقتصادي والمالي، مع يأس المجتمع الدولي من مفاوضات الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي، في الوقت الذي يعرف فيه اللبنانيون كيف استنزف ممثلو الطوائف السياسيون مقدراته، دون أدنى اعتبار لحاضر البلد ومستقبله، أو لاحتمال اندلاع حرب أهلية ثانية.
القاعدة الذهبية للوطنية هي إعطاء الأولوية للداخل في القضايا الكبرى المصيرية والمفصلية، وتعريف الذات انطلاقاً من انتمائها الوطني، وليس انطلاقاً من مشاريعها الإيديولوجية أو العقائدية، والتقيّد بتنفيذ هذه القاعدة هو ما يحمي الأوطان، وخصوصاً الهشّة منها، من انفراط عقدها أمام المشكلات والأزمات الخارجية والداخلية، وهو ما يجنّب الناس دفع الأثمان الباهظة لمشاريع الأحزاب العابرة للأوطان، لكن هذه القاعدة تمّ اختراقها مراراً وتكراراً في لبنان، والتي لا يزال التنكّر لها يولّد انفجاراً تلو الآخر، كما أن التنكّر لمساءلة الذات السياسية ونقدها يشكل عقبة كبرى أمام تجاوز تاريخ الدماء إلى كتابة تاريخ جديد، يكون فيه لبنان الكبير سيد نفسه، مستقلاً، حراً، ومزدهراً لكل مواطناته ومواطنيه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"