النقد الذاتي المشبوه

04:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

كتب الكثيرون عن أهمية التجديد الحضاري كمكون أساسي من مكونات المشروع النهضوي العروبي المعني بوحدة واستقلال الأمة العربية، وديمقراطية وتنمية مجتمعاتها.
لكن جرى التركيز على ضرورة القيام بمراجعة تحليلية نقدية تجاوزية للتاريخ العربي القديم، وللتراث العربي المملوء بالإشكالات الفكرية، والسلوكية، كمدخل لعملية التجديد تلك. وهذا بالطبع أمر ضروري للغاية.
غير أن هناك حاجة مماثلة، وبالتوازي مع تلك الجهود، لإجراء مراجعات تحليلية نقدية تجاوزية شاملة لكل ما مر على المجتمعات العربية من أفكار، وإيديولوجيات، وتنظيمات، وممارسات سياسية أثناء تاريخها المعاصر، وبالذات إبان الثمانية عقود الماضية.
أهمية القيام بذلك بصورة عقلانية موضوعية علمية، ومن خلال بحوث ميدانية كلما أمكن، يفرضها ما نراه أمامنا من محاولات مشبوهة، أو مملوءة بالجهالة، وقصر النظر، للقيام بعملية نقد ذاتي لمسيرة الحركات القومية العروبية. وبالطبع لا إشكالية مع ذلك النقد الذاتي لو لم يتعمد بعض القائمين به، بقصد وخبث، تحميل الفكر العربي الوحدوي المسؤولية عن كل الأخطاء، والانحرافات التي ارتكبها بعض المنادين بذلك الفكر، من أفراد وأحزاب على الأخص.
وبالطبع، فإن هدف هؤلاء الخفي ليس إبراز الأخطاء في الممارسات الماضية من أجل عدم تكرارها في المستقبل، وإنما إقناع الشعب العربي، وعلى الأخص الشباب، بالتخلي عن الفكر القومي الوحدوي، وبالذات عن الضرورة الوجودية العاجلة لقيام نوع من الوحدة ما بين شعوب هذه الأمة، وما بين أقطار هذا الوطن العربي الكبير.
ولا يهم عند هؤلاء الدلائل الكثيرة على فشل الدولة الوطنية، أو القطرية العربية، في مجالات الأمن، والاستقلال الوطني، والتنمية الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية، ولا فشلها حتى في المحافظة على كيانها من التمزق، وعلى مجتمعها من الصراعات العرقية، والمذهبية، والمناطقية.
من هنا الأهمية النضالية المفصلية لوجود مراكز دراسات وأبحاث عربية جادة رصينة، ومفكرين قوميين عقلانيين موضوعيين، لكي يقوموا بمهمة النقد الذاتي المطلوب، ولكن من دون أن يكون ذلك على حساب وجود الهوية العروبية الجامعة، ومشاعر الانتماء العروبي التي بناها التاريخ العربي المشترك، وغذّتها ملاحم النضالات التعاضدية ضد الاستعمار طيلة القرن الماضي، بل وإلى يومنا من هذا، وأبقت جذوتها اللغة الواحدة، والتراث المشترك، والجغرافيا الواحدة، والمصالح الكثيرة المترابطة.
ما يهمنا هو الوصول إلى النتيجة التي تبين أن الفكر القومي والثقافة العروبية لا ينحصران في حزب، أو حركة، أو أشخاص، وأن الدولة الوطنية لا تحتاج أن تخوض حرباً استئصالية مع الطموح والعمل الوحدوي العربي، وأن الممارسات الدكتاتورية السابقة في هذا القطر العربي، أو ذاك، باسم القومية العربية لا ينفي على الإطلاق الضرورة القصوى لأن تكون الديمقراطية ليست محل مساومة، أو تهميش في المشروع الوحدوي العربي المستقبلي، وأن نوع التوحد العربي يمكن أن يكون مرناً، ويتعلم من تجارب الآخرين من مثل الاتحاد الماليزي، أو الوحدة الاقتصادية الأوروبية، وأن نوع ومدى التوحد العربي النهائي تقرهما الشعوب بوسائل ديمقراطية سلمية تعاضدية.
قائمة المراجعة طويلة، وحتى معقدة، ولكن المهم هو وجود جهود تراكمية عربية نظيفة المقاصد والنوايا للقيام بهذه العملية لسد الأبواب أمام الانتهازيين، وخدم الاستخبارات الأجنبية الذين ينتهزون فرصة الضعف، والإنهاك، والتمزق الحالي لكي يقوموا بتدمير الفكر القومي العروبي الوحدوي، بعد أن نجحوا مع الأسف، بصور كبيرة، وعبر مراحل متعددة، في إزاحة قادة ومؤسسات المشروع القومي عن الكثير من ساحات العمل السياسي والإعلامي العربي.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"