بعيداً عن الوصفات الجاهزة

03:13 صباحا
قراءة 6 دقائق

 القاهرة: مدحت صفوت

الحديث عن كتب ومؤلفات تعليم مهارات وتقنيات الكتابة الأدبية، يستدعي بالضرورة التفكير في السؤال القديم المتجدد: هل الكتابة الأدبية موهبة خالصة أم حرفة؟، هل هي منحة ربانية أم صنعة يمكن التدريب عليها بمرور الأيام؟. في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، مرّ تاريخ الكتابة الأدبية بمراحلّ متشابكة ومتداخلة، وإن ارتضى الأدباء في ختام المطاف إلى الجمع بين الأمرين، والتأليف بين الجانبين، واعتبروا الإنتاج الأدبي «موهبة» تلقائية لا تزدهر أو تنمو إلا بالتعلم والتدريب والممارسة.

مؤكد أن الكتابة عملية تراكمية، وتزداد خبرة الإنسان بها مع مرور الوقت والاشتغال على أدواته ومهاراته، والفارق هنا بين كاتب وآخر، هو الاستعداد الشخصي للتطوير من جهة، ومدى جدية العمل على تنمية الذات من جهة ثانية، لكنّ في الوقت نفسه اكتساب هذه الخبرة لا يتأتى من كتب تعليمية تقدم الكتابة في شكل نصائح على غرار الوصفة المطوية في علب الدواء.

إن الاستمرار في الكتابة والمطالعة وتوسيع مدارك المعرفة، لعلها خير مرشد للتدريب والتعليم، إن الكتابة ممارسة، عملية تتطلب عينين، لكن من يفتحهما أو يغمضهما يكون الفرد نفسه، بإرادته الحرة، الأمر الذي يدعمه السؤال: هل سمعتم من قبل عن مبدع متحقق تعلم الكتابة من خلال الوصفات؟.

المختارات

مبكراً أدرك العرب حرفية الكتابة الأدبية، ولعل الرجوع إلى التاريخ يكشف عن قدم ظاهرة المؤلفات ذات الغرض التعليمي بشأن الإبداع والإنتاج الأدبي، وتبرز هنا أول مختارات شعرية وصلت إلى أيدينا هي «المفضليات» ل«المفضل الضبيّ» الذي عاش في مطلع القرن الثاني الهجري.

وحسبما يروي أبي فرج الأصفهاني أن «المفضليات» وضعت في الأصل بناءً على طلب الأمير منصور بن المهدي، ثالث خلفاء الدولة العباسية، وقتما كان ولياً للعهد، لتعليم ابنه «المهدي»، فنون البلاغة وديوان العرب «الشعر» ولصقل المهارات اللغوية.

ولهذا الغرض التعليمي، توالت بعد «المفضليات» كتب انتخاب واختيار الشعر، فوضعت «الأصمعيات» لأبي سعيد الأصمعي، ومن بعدها «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القُرَشِيّ، و«مختارات شعراء العرب» لأبي السعادات بن الشجريّ، ثم ديواني الحماستين لأبي تمام وعلى نهجهما جاءت حماسة البحتري.

نظرياً، في الوقت الذي اعتبر فيه الشعراء القدماء الإبداع «هبة ربانية» وموهبة ممنوحة للإنسان، لا دخل له فيها إلا بالتجويد وتنميتها، عمل البلاغيون والنقاد العرب على التأسيس لفكرة «حرفية الأدب» من خلال الكتب النقدية.

صناعة تكتسب

في القرن الرابع الهجري، ألف أبو هلال العسكري كتابه الشهير «الصناعتين»، الذي ناقش فيه أساسيات الكتابة والشعر، وتوجه في افتتاحه إلى عموم القراء، وقد ألفه لما رأى من شرف علم البلاغة ونبله وفضله، ومع ذلك بدت المؤلفات والمصنفات فيه في ذلك الوقت «قليلة» وليست نادرة، فقد سبقه «البيان والتبيين» للجاحظ و«نقد الشعر» لقدامة بن جعفر، و«البديع» لعبد الله بن المعتز.

ورأى العسكري في مؤلفه أن البلاغة لابد من تعلمها، وأن الأديب، شاعراً أو ناثراً، إذا أراد أن يصنع قصيدته أو ينشئ رسالة، وقد فاته هذا العلم «مزج الصفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل وغير العاقل».

وفي التراث، ثمة مقولات عدّة على توصيف الأدب ب«الحرفة»، فقد نقل الثعالبيّ في كتابه «تحسين القبيح وتقبيح الحسن» القول الشائع حينذاك «حِرْفةُ الأدب حُرْفةٌ لا يسلم منها أديب».

ماركيز ويوسا

حديثاً، بدا العالم الغربي هو الأكثر اهتماماً بالمؤلفات التي تعنى بتعليم أساسيات ومهارات الكتابة الأدبية، بوصف العملية الأدبية «مهنة» أو صنعة، يمكن اكتساب أدواتها. فالروائي الأمريكي الحائز جوائز عدّة وليم كولز، نشر في 2007 كتاباً أصبح واحداً من الكتب الأكثر مبيعاً «الكتابة الأدبية.. دليل للكتاب»، ورأى من خلاله أنه يقدم ما وصفه ب«المبادئ التوجيهية» لكتابة قصة أو رواية، معرجاً على كيفية التخطيط للرواية وبناء الصراع الدرامي، مشدداً على أن «دليله» ليس فقط للمؤلفين، بل يمكن للقراء الذين ليست لديهم طموحات في الكتابة أن يتعلموا كيفية تقدير الكتب التي يقرأونها.

الأمر لا يقتصر على الكتب فقط، فثمة عشرات المواقع الإلكترونية التي تقدم نفسها بعبارة «دليل المبتدئين في الكتابة الأدبية»، لكنّ أشهر مؤلفين تُرجما إلى العربية هما «رسائل إلى روائي شاب» لماريو بارجاس يوسا و«كيف تكتب الرواية» لجابريل جارسيا ماركيز.

وفي رسائله يؤمن يوسا أن البشر لا يولدون بقدر مبرمج، منذ بدء تشكلهم في أرحام أمهاتهم، بضربة حظ مصادفة، أو هبة إلهية توزع الكفاءات والعجز، الرغبة والنفور، بين الحيوات اللامعة، وإنما يؤمن مؤلف «حفلة التيس» أن الميل حركة حرة للمشيئة الفردية، تحسم مستقبل الشخص، ومع أنه يعتقد بأن الميل اﻷدبي ليس شيئاَ قدرياً، مكتوباً في جينات كتاب المستقبل، وبالرغم من قناعاته، بأنه يمكن للانضباط والمثابرة، في بعض الحالات، أن ينتجا العبقري، فقد توصل إلى القناعة بأن الميل اﻷدبي لا يمكن تفسيره بأنه خيار حر وحسب، صحيح أن هذا الخيار الحر، في رأيه، هو أمر لا بد منه؛ ولكنه يأتي في مرحلة ثانية فقط، وانطلاقًا من استعداد أولى ذاتي، فطري، أو مصاغ في الطفولة أو الشباب المبكر؛ ثم يأتي الخيار العقلاني لتعزيزه، وليس لصنعه، من رأسه حتى قدميه.

وعبر سلسلة من المقالات يحاول الكولومبي مؤلف «مئة عام من العزلة» أن يجيب عن سؤال كيف تكتب رواية؟، بأسلوبه الشائق من صميم تجربته الروائية، لكن يظل الكتاب مجرد بيان يخص شخصية ماركيز الروائية وأسلوبه وهدفه، وإن عرّج على الرواية بوصفها فناً يبتعد بأهدافه وطموحاته عن المنحى التجاري.

ورش سريعة

عربياً تكاد تختفي مثل هذه الكتب، ولا نعثر إلا على ما صدر في ألأيام القليلة الماضية من عمل مشترك بين الروائي الجزائري واسيني الأعرج والناقدة الأردنية رزان إبراهيم، وبالعنوان الأكثر رواجاً «كيف تُكتب الرواية؟».

في المقابل، استعاض العرب خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة عن كتب تعليم مهارات الكتاب ب«الورش الأدبية»، التي لاقت رواجاً كبيراً خلال السنوات الأولى من القرن الحالي، على الرغم من انعقاد أغلبها بمقابل مادي ومالي، لكنّ حلم الكثيرين دفعهم إلى الانضمام إلى هذه الورش التي حملت عناوين براقة وجاذبة من قبيل «كيف تصبح روائياً مشهوراً»، بل بالغ بعض القائمين على هذه الورش ورفعوا شعارات «كيف تصبح أديباً في أسبوعين».

بالعودة إلى الكتاب الصادر حديثاً، يفصح الأعرج عن السبب الرئيسي وراء التأليف وهو «الغياب الكلي لكتاب مرجعي تعليمي، من الناحية التقنية في كتابة الرواية، ويمهد الطريق لعشاق هذا الفن، وما أكثرهم اليوم».

إذن منذ اللحظة الأولى لتأليف الكتاب، كان الغرض تعليمياً محضاً، فيما يرى المؤلفان أن فكرته «مغامرة حقيقية لأنها تفرض مواجهة مع سدنة الكتابة موهبة»، ما يعني اصطفاف الأعرج وإبراهيم منذ البداية إلى جانب أن الكتابة ليست موهبة خالصة، هي نتاج تلاقح بين الجانب التعلمي والجانب النقدي المعرفي.

لا تخضع لأحد

وبعنوان مشابه لعنوان كتاب يوسا «رسائل إلى كاتب شاب» يُصدر الروائي الإيرلندي كولوم ماكان كتابه الذي يوجهه إلى أيّ شخص عابر محب للأدب، فقط عليه أن يدرك أولاً أن الكتابة ليست عملية خرافية، وترتبط بالأوقات المتأخرة من الليل أو إدمان المشروبات الكحولية أو تعاطي المخدرات في بعض الأحيان، إنما عليه العمل على ذاته ونفسه.

يضيف الروائي الذي نشر عمله الأول منذ ربع قرن تقريباً ، أن الكاتب الشاب ليس مضطراً للخضوع لأي شخص. أو للاستماع إلى الكتَّاب الأكبر سناً وهم يلقون نفاياتهم. في الواقع، عليه أن ينسى، حتى رسائل «كولوم» نفسها.

مختارات تعليمية

«الأَصْمَعِيَّات» كتاب لأبي سعيد عبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي الشهير بالأصمعي، بهدف التعليم والارتقاء بالذائقة، وهو مجموعة في اختيار الشعر العربي، يضم مختارات من الشعر الجاهلي والمخضرم والإسلامي. والكتاب يضم اثنتين وسبعين قصيدة في 1163 بيتاً لواحد وستين شاعراً. سار الأصمعي على نهج «المفضليات» بالاهتمام بالشعر الجاهلي. وعدد المقطعات عنده كبير، وأطول قصائد الأصمعيات لم تتجاوز أربعة وأربعين بيتاً، بينما كانت أطول القصائد في «المفضليات» تتألف من 108 أبيات.

وقع الاختلاط بين الأصمعيات و المفضليات، وجمع الورَّاقون في أحيان كثيرة بينهما في كتاب واحد فالتبس الأمر على بعضهم فعُدَّتْ قصائد من المفضليات على أنها أصمعيات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"