تحويل الذكرى إلى استراتيجية

04:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
د . علي محمد فخرو

من الضروري أن يرتبط شعار التوحّد العربي مع شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال القومي والوطني

في هذا الأسبوع ، وإذ نستذكر موت بطل الأمة العربية وزعيم حلمها الكبير المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر، منذ خمسين سنة، فإنه من الحكمة لهذه الذكرى الأليمة ألا نجعلها مقتصرة على الشخصنة، وعلى سرد المنجزات، ولا على الانغماس في نقد الأخطاء التي ارتكبت باسم التجربة الناصرية.

طبعاً، كان الرئيس ذا شخصية كاريزمية، بقدرات خطابية متميزة، وبتفاعل نشط مبهر مع الملايين الذين أحبّوه ووثقوا به وساندوه، وبضمير حسّاس تجاه عالم الفقراء والمهمّشين والمظلومين، وبعفّة تجاه المال العام، وهو الذي مات شبه معدم، وشبه متصوّف.

وطبعاً كانت هناك إنجازات هائلة، من مثل تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي العظيم، والقضاء على الإقطاع، ومجانية التعليم في كل مراحله، واحتضان مئات الآلاف من شباب العرب والمسلمين في جامعات مصر، وإسناد كل حركة تحررية في وطنه العربي، وفي العالمين الإسلامي، والثالث، والتزامه القومي الكامل بالوقوف في وجه إسرائيل، وبناء قاعدة صناعية كبيرة حديثة في القطر المصري، وفي تحقيق أول وحدة طوعية واعدة ما بين مصر، وسوريا ، وغير ذلك من المنجزات الكثيرة التي استفاد منها، وساندها الوطن العربي كلّه.

طبعاً ارتكبت الكثير من الأخطاء أثناء مسيرة تفعيل ذلك الحلم الهائل في واقع الحياة العربية عبر الوطن العربي كله. فالأخطاء كانت، وستظل ملازمة للطموحات الكبيرة.

كل ذلك هو تاريخ حافل، له ماله، وعليه ما عليه، وسيكون دروساً وعبراً لأجيال كثيرة قادمة. أما ما نحتاج إليه الآن فهو ربط وتفاعل ذلك التاريخ باللحظة الخطرة المعقدة التي تعيشها الأمة العربية حالياً. دعنا نركز على بضع جوانب نعتبرها محورية:

أولاً - بعد موت قائد تلك الحركة العروبية القومية التقدمية التحررية الكبرى، التي هيمنت على الحياة العربية إبان الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تراجع المد القومي، وتكالبت على إضعافه، في الواقع وفي الذاكرة الجمعية العربية، كل قوى الاستعمار وإسرائيل، والكثير من القوى الخائفة من مكوناته التقدمية، والوحدوية. وصعدت شعارات الخلاص القطري والتركيز على الوطني المحلّي بعيداً عن مشاكل وهموم الأمة.

لكن، وبعد مرور خمسين سنة على التوجّه القطري فشل ذلك التوجّه فشلاً ذريعاً في انتقال أيّ قطر عربي إلى حالة التنمية الشاملة المستدامة في الاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، وفي حماية أي قطر من تدخّلات واستباحة الخارج الاستعماري. وتشهد الأوضاع المأساوية التي يعيشها الوطن العربي كلّه حالياً على الفشل الذريع لتعايش أي قطر عربي بعيداً عن أمته العربية، ووطنه العربي الكبير.

ثانياً - يثبت يوماً بعد يوم، وفاجعة بعد فاجعة، وهجمة استعمارية غربية بعد هجمة، وتصرفاً قطرياً خاطئاً بعد تصُرف، أن الطريق الوحيد لهذه الأمة، والذي سيخرجها من الضعف والهوان إلى القوة والمنعة، ومن التخلف إلى النهوض، هو طريق وحدتها كأمة وكوطن.

ولذلك فهذا الطريق، طريق وحدة النضال والمصير والأهداف الكبرى القومية المشتركة، الذي ناضل الرئيس الراحل من أجل السير فيه، آن أوان تكملة السّير فيه من خلال مراجعة منهجيات تحقق أهدافه في الواقع العربي المتغيّر الجديد بالغ التعقيد من جهة، ومن خلال تجميع وتنظيم كل القوى المؤمنة بضرورة الرجوع إليه من جهة أخرى.

ثالثاً :هذا تحدٍّ وهدف مشروع مطروح على القوى السياسية المدنية العربية المستقلة عن توجيهات وهيمنة أية جهة لمناقشته، وإغنائه وتحويله إلى استراتيجية نضالية قومية تقوم بها كتلة تاريخية عربية، مكونة من أحزاب وجمعيات مهنية وأهلية ونسائية ونقابات عمالية وشخصيات نضالية مستقلة.

وإذا أريد لهذه الاستراتيجية أن تنجح في تجييش الملايين، وعلى الأخص الشباب والشابات منهم، وفي جعل الاستراتيجية جزءاً من حياتهم العامة، فمن الضروري أن يرتبط شعار التوحُّد العربي مع شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال القومي والوطني كحدٍّ أدنى ليكون منطلقاً لإحداث تنمية شاملة مستدامة تطال أرض العرب كلّها.

جاء الوقت لترك مواجهة التحديات الصغيرة المتناثرة هنا، وهناك، فقد ثبت الاقتصار على مواجهتها منفردة ومتفرقة وبقوى متناثرة، لن ينقل العرب إلى مجرى نهر العصر الحضاري المتدفّق من حولنا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"