الاستقرار المؤجّل في مالي

03:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

عمّ التفاؤل بصدد الأزمة في مالي، المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، مع انتخاب إبراهيم بوبكار كيتا رئيساً للبلاد عام 2013؛ بعد صراعات سياسية وعسكرية، وإشكالات عميقة، فرضها تمدّد الجماعات المسلحة داخل البلاد، خاصة وقد وعد بكسب عدد من الأولويات المتصلة بمكافحة الإرهاب، وفرض الأمن على امتداد مناطق تراب مالي، وإخراج الاقتصاد من المأزق الذي كان يعانيه، إضافة إلى معالجة عدد من الإشكالات والملفات الاجتماعية، وتجاوز تبعات الانقلاب الذي شهدته البلاد في سنة 2012.

وعلى الرغم من حصيلته المتواضعة في هذا الخصوص على امتداد خمس سنوات، فاز كيتا بولاية رئاسية ثانية عام 2018، تنامت فيها حدّة المخاطر الأمنية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.. والتي زاد من تعقدها عدم انفتاح الرئيس على عدد من الفاعلين من معارضة وقوى دينية ومدنية، وصدور قرار عن المحكمة العليا؛ يقضي بإلغاء فوز المعارضة بعدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، ما أدّى إلى احتقان الوضع من جديد، وهو ما عكسه تنامي الانتقادات إلى نظام «كيتا»، واتهامه بالتزوير والفساد، وبالمسؤولية على تأزم الأوضاع في البلاد.

كان من الطبيعي وسط هذه الظروف أن تتدهور الأوضاع الاجتماعية والأمنية، وتتقوى الجماعات المسلحة، وتنتشر في مناطق مختلفة من البلاد، مخلّفة وراءها عدداً كبيراً من الضحايا. وعلى امتداد ثلاثة أشهر مضت، شهدت البلاد تظاهرات شعبية عارمة قادتها قوى المعارضة، وحركة 05 يونيو التي تجمع عدداً من الفاعلين السياسيين ورجال الدين وهيئات المجتمع المدني، والتي لم تخل من ضحايا، وقد طالب خلالها المحتجون برحيل الرئيس. أمام تأزّم الوضع من جهة، وعدم تجاوب المعارضة مع بعض التنازلات التي عبر عنها الرئيس في سبيل الحدّ من الاحتجاجات من جهة أخرى، وأمام هذا الوضع، ووعياً بالتداعيات المحتملة للأزمة على الأمن والسلم الإقليميين في محيط ملتهب، قامت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والتي تتكون من 15 دولة، بمجموعة من المساعي الحميدة والوساطات الودية، انتهت بدورها إلى الفشل. ووسط هذه الأجواء المحتقنة، شهدت البلاد في الثامن عشر من شهر أغسطس/آب الماضي، تمرّداً جرى في إحدى القواعد العسكرية بضواحي «باماكو» أسفر عن اعتقال الرئيس «كيتا»، الذي أعلن خلال نفس اليوم عن استقالته كرئيس للدولة، وعن حلّ البرلمان والحكومة.

خلّف الأمر ردود فعل واسعة على المستويات الإقليمية والدولية، فقد عبّرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، عن تنديدها بهذا العمل، ودعت دول الجوار إلى إغلاق حدودها مع مالي.

ودخلت الأمم المتحدة أيضاً على الخطّ؛ حيث ندّد أمينها العام بهذا العمل، بينما أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2541، بتاريخ 31 أغسطس/آب؛ حيث دان فيه بشدة التمرد الذي شهدته البلاد، وشدّد على الضرورة الملحة لاستعادة سيادة القانون، والسير في اتجاه إعادة إرساء النظام الدستوري، ودعمه مبادرة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.

أما فرنسا التي سبق ونشرت قوات عسكرية من نحو 5100 جندي في إطار عملية «برخان» لمواجهة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، فقد أكّدت رفضها للتمرد، ودعت إلى حماية واحترام النظام الدستوري للبلاد، وهو الموقف الذي عبرت عنه الولايات المتحدة كذلك، أما روسيا فعبّرت عن قلقها إزاء ما جرى، وأكدت أنها تتابع تطوّر الأمور عن كثب.

وتحت وقع هذه الضغوطات، أعلن المجلس العسكري في مالي، في أعقاب مشاورات عقدت مع عدد من الأحزاب السياسية والفعاليات المدنية، عن التوصّل إلى اتفاق حول تشكيل حكومة؛ لقيادة البلاد خلال فترة انتقالية ستستمر نحو ثمانية عشر شهراً.

وقد بدأت حدّة الأزمة تتراجع، بعدما أدّى العقيد المتقاعد باه نداو القسم الدستوري أمام المحكمة العليا كرئيس للسلطة الانتقالية، والذي عيّن بدوره وزير الخارجية السابق «مختار وان» رئيساً للحكومة المكلفة بتدبير المرحلة الانتقالية، وهو ما يمهد الطريق لرفع العقوبات التي فرضتها دول الجوار ومجموعة «إكواس» على البلاد في أعقاب فرض الانقلاب.

تبرز الكثير من المؤشرات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي تعقّد الأزمة في مالي، فلا التدخل الدولي بقيادة فرنسا، الذي شهدته البلاد قبل سنوات استطاع أن يحاصر الإرهاب، الذي ما زال يهدّد الاستقرار في المنطقة برمتها، ولا مكّنت عودة الشرعية الدستورية إلى البلاد بعد الانتخابات التي حملت «كيتا» إلى الحكم في أعقاب الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد عام 2012، أن تنهي الصراعات العرقية، وتنشر الأمن، وتقوّي سلطة الدولة على امتداد التراب المالي.

إن كسب رهان الاستقرار في مالي وفي منطقة الساحل بشكل عام، يمكن أن يتأتّى من زاويتين، الأولى داخلية، تقوم على إحداث حكومة وطنية قويّة تقود المرحلة الانتقالية التي تفضي إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية ذات مصداقية، وعلى تقوية المؤسسات السياسية والدستورية، وتعزيز الإصلاحات الاقتصادية، وإقرار الأمن في كامل تراب البلاد، ومعالجة الملفات الاجتماعية المطروحة، مع تعزيز الجبهة الداخلية في إطار من المسؤولية، وتعبئة الجهود والموارد في مواجهة الإرهاب. والثانية خارجية، تتأسس على الموازنة بين تقديم العون العسكري لمحاصرة الجماعات الإرهابية من ناحية، ودعم جهود التنمية، والمساهمة في الحدّ من المعضلات الاجتماعية من ناحية أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"