فيروس آخر في حياتنا

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

لم يكن كورونا أول وباء استحق الحصار وفرض العزل عبر التاريخ؛ بل سبقته إلى هذا الاستحقاق أوبئة عدة، صحية وفكرية وسياسية نالت من الإنسان، ولكنه في النهاية نجح في القضاء عليها وفي أضعف الإيمان تحجيمها، باستثناء وباء واحد لم يشأ الأسبقون القضاء عليه، ولَم يرغبوا في تحجيمه، وهو جماعة «الإخوان» التي بدأت فيروساً ضئيلاً لينمو ويترعرع في سرية تامة، ولما اشتد عوده ظهر على الملأ، ثم تحوّر ليفرّخ أشكالاً وألواناً من جماعات الإرهاب والترهيب ونشر العنف واستباحة أرواح الأبرياء، حتى أصبحت وباء يهدد الشرق والغرب وينشر الفوضى، ولم يترك بقعة إلا ووضع بصمته الدموية فيها. 

لو تعاملت مصر الملكية مع «الإخوان» تعامل الدول مع الفيروسات الوبائية، ما انتشر التكفير والترهيب في عالمنا المعاصر، ولو أجهضت الفكرة في مهدها ما عشنا حالة الفوضى الدينية التي لم تخلف سوى البلبلة في عقول الناس، ولو تصدت ثورة 1952 في مصر للفكر «الإخواني» المتشدد بالفكر الإسلامي المعتدل، ولو واصلت مصر ما بعد عبد الناصر نهجه في إغلاق جميع الأبواب أمام هذه الجماعة، ما وصلنا إلى مرحلة الإرهاب الذي نشهده لالتهام الدول ونشر الفتنة بين الشعوب. 

ارتكابات «الإخوان» وشقيقاتها من صناع الإرهاب ليست فقط اجتماعية وسياسية، ولكنها قبل أي شيء دينية، فقد اتخذت من الدين ستاراً لتنفيذ أفكارها الشيطانية وسمحت لنفسها باقتطاع ما يخدم أفكارها من النصوص الدينية، ولم تتورع عن تحريف «الكلِم عن مواضعه» بما يخدم أهدافها، لتتمكن بالجزء المقتطع من غزو عقول البسطاء والسيطرة على وجدانهم وإقناعهم بأن تفجير الذات وتفخيخ الصغار وقتل الأبرياء، وتفتيت الدول، وخدمة أعداء الإسلام، هو الطريق إلى الجنة، وهم يدركون أن أقوالهم ليست سوى أكاذيب لدغدغة مشاعر التائهين والعاجزين عن إعمال العقل. 

الفكرة الشيطانية الصغيرة كبرت وجمعت حولها الطامعين في السلطة، ودراويش المجتمعات، وتمددت وخرجت من مصر، وانتشر الفيروس حول العالم، وأصبح له في كل دولة اسم وكيان، وبعد أن استفحل وأصبح خطراً، كان لابد من استعادة الوعي وإيقاظ الروح الغافلة، وكان مهماً أن تبدأ رحلة مكافحة الفيروس ومحاصرته من الأرض التي انطلق منها، بمساعدة من يريدون خيراً لأمة العرب والإسلام، وبعد أن اختطف «الإخوان» مصر وكادت مهد التاريخ أن تذوب في وعاء «المتأسلمين»، دبت الروح مرة أخرى في أوصال شعب لم يقبل بالتجاوز على الدين والدولة «باسم الدين»، ونفض عن نفسه غبار الزمن لينتفض في وجه الإرهاب وصناعه في 30 يونيو 2013، وحاصر الفيروس سياسياً وتصدى لجرائمه أمنياً وعسكرياً، لينقلب السحر على الساحر، ويتخلص الناس من تأثير المخدر الذي غيّب عقولهم أكثر من 80 عاماً، وعلى النهج ذاته سارت دول اكتوت بنار الإرهاب ووقعت في مستنقع الفوضى، ودول أخرى كانت تدرك خطر هذا الفيروس، لتصنف العديد من الدول العربية وغير العربية «الإخوان» جماعة إرهابية، بعد أن صنفت شقيقاتها قبلها. 

«الإخوان» كفكرة، تولدت منها أفكار العنف والإرهاب والتكفير، وكلها أصبحت فيروسات وبائية، والنجاح في بترها لن يكون سوى بلقاح فكري يأخذ منها ليرد عليها، ولذا كانت مطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي مراراً وتكراراً بتجديد الخطاب الديني، وهو اللقاح الأنسب للقضاء على هذا الفيروس، فالمواجهة الأمنية والعسكرية قد تحاصره، ولكنها لن تقضي عليه وسيعود بعد فترة لينشط ويجدد نفسه، وينشر عدواه في كل مكان، ويعيد الفوضى ليدور العالم في حلقة مفرغة. 

قبل أن يودعنا عام 2020 أكد مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية بالتفصيل والتفنيد، أن الانضمام لجماعة «الإخوان» وغيرها من الجماعات الإرهابية «محرم شرعاً»، والفتوى جاءت كما ورد في بيانه بعد أن «بدا واضحاً جلياً للعامة والخاصة والصغير والكبير، ما قامت به هذه الجماعات من تشويه لبعض النصوص واقتطاعها من سياقها واستخدامها لتحقيق أهداف أو مآرب شخصية، وإفساد في الأرض بعد إصلاحها من خلال غرس الفتنة والوقيعة بين أبناء الوطن الواحد؛ بل أبناء الإنسانية كلها، ورمي المجتمعات بالكفر وغير ذلك، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل».

وقبل الأزهر صنفت هيئة كبار العلماء السعودية «الإخوان» جماعة إرهابية، وكذلك علماء الدين في الإمارات، ولعل مواقف رجال الدين وتفنيدهم لأكاذيب هذه الجماعات هي اللقاح المنتظر للقضاء على الفيروس اللعين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"