عادي

«وايلد ماونتن تايم»..الرومانسية بطعم فلسفي

23:14 مساء
قراءة 5 دقائق
1
1
1

مارلين سلوم

من يبحث عن تصنيف الأفلام أولاً كي يختار ما يشاهده، يقع في الفخ أحياناً، فليست كل الأفلام الرومانسية مثلاً بسيطة وسلسة ولا كلها جميلة. هناك أفلام تتطلب منك جهداً لتربط الشخصيات ببعضها بعضاً ولتفهم أبعاد كل منها ودوافعها وأفكارها. وفيلم «وايلد ماونتن تايم» أي «زعتر الجبل البرّي» المعروض في الصالات، من الأفلام الرومانسية الحالمة المبهجة للنظر، ولكنها في نفس الوقت فلسفية في المعنى والمضمون.

أهم ما يلفتك في «وايلد ماونتن تايم» أنه مختلف، له توليفة ليست إنجليزية بحتة ولا أمريكية، أحداثها في الريف البسيط لكنها معقدة إلى حد ما، زمانها يصعب تحديده طوال الفيلم وتحسب أنها تعود إلى الماضي البعيد لكنها تفاجئك في الربع الأخير من الفيلم بأنها قريبة.

اختار المؤلف والمخرج الأمريكي جون باتريك شانلي الريف الإيرلندي (صور في مقاطعة مايو الإيرلندية) ليكون أرض الأحلام التي يبني عليها قصة بطليه أنتوني رايلي وروزماري مولدون. 

يسعدك هذا الاختيار لأنه يمنحك الكثير من الراحة البصرية والنفسية، لاسيما أن شانلي يحرص على التجول بكاميرته فوق الخضرة والماء، فوق الجبال والهضاب وفي الأودية وعند البحيرات.. لا ثلوج، بل عشب أخضر «منعش»، يصلك هذا الإحساس وأنت تراه على امتداد المساحات الشاسعة. يستعرض المخرج قدراته في التصوير من كل الاتجاهات، ويحلق عالياً بكاميرته أكثر من مرة ليتسع الكادر ويتسع معه الأفق، وتتناسب المشاهد مع القصة الرومانسية، علماً أن التصوير الخارجي يطغى على الفيلم بينما المشاهد الداخلية معدودة، وهي ميزة لا تجدها في كل الأفلام.

بساطة معقدة

برع شانلي في اللعب على عين المشاهد ونفسيته فيكسب وده ويجلسه في مقعده لنحو 102 دقيقة دون تذمر، رغم أنه كتب قصة بسيطة ومعقدة في آن. قدمها أولاً على مسرح برودواي باسم «خارج مولينجار»، ثم أعاد صياغتها وكتابتها سينمائياً ليشاهدها جمهور أوسع في الصالات حول العالم، مطلقاً على الفيلم اسم أغنية إيرلندية شعبية معروفة «وايلد ماونتن تايم»، تغنيها البطلة في أحد المشاهد المؤثرة.

من الطبيعة تنطلق الكاميرا ويرافقنا صوت الراوي «أهلاً بكم في إيرلندا..». يعرف عن نفسه «توني رايلر» (كريستوفر والكن) ويقدم لنا مزرعته وبيته وزوجته ماري وابنه أنتوني الذي يعتبره غريب الأطوار، وجاره كريس مولدون (دون وايشيرلي) وزوجته أيوفي (ديربلا مولوي) وابنتهما روزماري الصغيرة الحالمة والمليئة بالحب، ويبدو من نظراتها أنها تحب أنتوني بصمت، وتغير من فيونا التي يهتم أنتوني بأمرها. ويخبرنا الراوي أن التقاليد لديهم تقول: «إذا مات إيرلندي وهو يروي قصة، فهذا يعني أنه عائد». ما يجعلنا نترقب وفاة توني ثم رؤيته مجدداً.

روزماري ابنة أبيها الوحيدة والمدللة والجميلة، تبكي لأن أنتوني أوقعها من على الشجرة الوحيدة الموجودة عند تل مرتفع، يواسيها والدها فيسمعها الموسيقى الشهيرة لأوبرا «بحيرة البجع»، ويخبرها بأنها هي البجعة البيضاء، أي إنها ملكة والعالم كله ملكها وتستطيع أن تفعل ما تشاء. تخرج الطفلة من بيتها وهي ترقص الباليه على أنغام الموسيقى وكأنها تطير فرحاً، ولحظة عبورها من بوابة حديقة المنزل إلى الحقل أمامه هي لحظة الانتقال بالزمن التي اختارها المخرج بذكاء ليختصر السنوات ونرى روزماري شابة حسناء تؤديها بإتقان وفيض من المشاعر النجمة إميلي برانت، وبالطبع يكبر أنتوني ليجسده جيمي دورنان.

نتوقع طبعاً أن تكبر قصة الحب، لكن ليس هذا ما يحصل، فالمخرج ينقلنا إلى ليلة عاصفة شديدة المطر، وتوني وابنه عائدان من جنازة والد روزماري الذي ترك لها مزرعة واشترى لها قطعة الأرض التي أوقعها عليها أنتوني في طفولتها، بالإضافة إلى قطعة أرض صغيرة اشتراها من جاره توني وهي تفصل بين أرضيهما، أغلقها ببوابتين ليجبر الجار وابنه على فتحهما وإغلاقهما كلما مرا من هناك. أنتوني رايلي خجول، لا يبدو منشغلاً بروزماري رغم جمالها وذكائها وقدرتها على إدارة مزرعتها بنفسها. طبعاً تتوالى الأحداث، ترحل والدة روزماري ومن بعدها والد أنتوني، وطوال الوقت تشعر بأن في عقلك الباطن تمشي مع الأحداث لكنك تنتظر لحظة ارتباط البطلين واكتمال قصة الحب التي تبدو وكأنها من طرف واحد. جون باتريك شانلي يزيد العلاقة بين الطرفين تعقيداً، فيزرع فيك الشك في قدرات أنتوني العقلية حيناً وفي حبه لجارته حيناً آخر، وفي قدرته على تحمل مسؤولية الأرض وزراعتها وتربية ماشيتها رغم نشأته فيها، ما يجعل والده حريصاً على استدعاء أخيه وابنه آدم (جون هام) من أمريكا ليبيعه الأرض.

إنعاش الروح

لا تستمتع بالمشاهد والطبيعة والخضرة والمطر فقط، بل أيضاً بالحوار الفلسفي المنعش للروح والذي يدور بين الشخصيات، حاملاً الكثير من المعاني الجوهرية للحب والحياة والهدف الذي يحدده الإنسان لنفسه، والعلاقة بين الأب وابنه، وهنا يستوقفنا مشهد رائع بل من أكثر مشاهد الفيلم تأثيراً في الجمهور لكريستوفر والكن وجيمي دورنان في لحظة مصارحة باكية مبكية بين أب على فراش الموت وابنه الشاب الذي عاش مكسوراً منغلقاً على ذاته. ورغم جمال العبارات والمعاني، إلا أن مماطلة شانلي في إيصالنا إلى حل اللغز الكامن خلف صمت وتردد وخوف أنتوني، وحقيقة مشاعره تجاه روزماري، يُفقد المشاهدين صبرهم في لحظة معينة. هذا المشهد الذي يعتبر أيضاً مصارحة إنما بين البطلين، يعتبر مثل المباراة الحامية بين الشخصيتين والتي يصلان فيها إلى ذروة الأداء والمشاعر ،كما تصل فيها القصة إلى ذروتها أيضاً. ومن المعاني المهمة التي يصر المؤلف على التلميح إليها، الفارق بين أهل الريف وأهل المدن، سواء من حيث أهمية الأرض والإحساس بها وقياس ابن المدينة لها بالأمتار بينما لا يعرف الريفي لها مقياساً ولا تعنيه الأرقام.

بالنسبة للجمهور العربي، لن تستوقفه «غلطة» يعتبرها البريطانيون وخصوصاً الإيرلنديون «شنيعة»، حيث وقع المخرج والأبطال في فخ اللكنة وأفلتت من بين أيديهم، رغم أن دورنان من أصل إيرلندي ما يجعله أفضل من النجوم الآخرين، الذين تراقصت ألسنتهم على سلالم اللكنات البريطانية والإيرلندية والأمريكية. ولم يفلت من الفخ سوى الممثل جون هام لأنه لعب دور آدم ابن عم أنتوني الذي يعيش في أمريكا. غلطة تغتفر أمام الإتقان الشديد لشانلي في اختيار أماكن التصوير والموسيقى والملابس والديكور والقصة الرومانسية غير التقليدية، وأمام كم المشاعر الذي يفيض من أداء بلانت ودورنان ووالكن والذي ينعكس على العمل وعلى الجمهور، وأيضاً أمام حرص المخرج على أدق التفاصيل، حتى لون أظافر الرجل العجوز توني التي أخذت لون التراب و«اليد التي تصير تشبه الرِجل» للدلالة على خشونتها لكثرة العمل بالأرض.

 [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"