أيادٍ تبني وأيادٍ تهدم

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

نعم.. مصر تستطيع، ولكن بشرط الإرادة، وهذه حقيقة ينبئنا بها الماضي والحاضر؛ فمن يتصفح التاريخ يدرك أن مصر استطاعت، وصنعت حضارة كانت، ولا تزال، وستظل مفرداتها لغزاً يعجز العلماء عن تفسيره، كما أنشأت دولة بالمفهوم المعاصر منذ آلاف السنين، وشكلت جيشاً كان، وسيظل الصخرة التي تحطمت عليها أحلام الطامعين، وحائط الصد الذي تقهقرت أمامه جحافل المعتدين، من زمن الهكسوس، وحتى اليوم، والغد. 

 ومثلما استطاعت مصر بالأمس، فهي تستطيع اليوم.. تستطيع أن تبني وتخطط وتنجز وتبهر العالم، في صمت، ومن دون ضجيج، ولعل أزمة السفينة العملاقة التي جنحت الأسبوع الماضي واستكانت في عرض قناة السويس كانت البرهان.

  ستة أيام عاشتها مصر على أعصابها بعد أن أغلقت السفينة الجانحة مجرى القناة الملاحي لأول مرة منذ حرب ١٩٦٧، أيام كشفت لمصر الأعداء من الأصدقاء، وأصبحت القاهرة خلالها هدفاً متجدداً للإعلام المسموم، وللساسة المتآمرين، وللدول والجماعات، والأفراد المتربصين، أيام كان ظاهرها العجز والفشل، وباطنها البحث والتخطيط، وكان ختامها النجاح والإنجاز، لتقول مصر للعالم إنها تستطيع، وإنها في وقت التحدي لا تسمع الضجيج، ولا تلتفت للضوضاء، فقط تعمل لتقلب السحر على الساحر، ولتحوّل ما يعتبرونه فشلاً إلى نجاح يجعلها حديث العالم، ومحط أنظاره. 

  أبطال مصر من أحفاد حافري القناة بعرقهم وأرواحهم ودمائهم، استطاعوا أن يحرروا القناة من السفينة الجانحة، ويحركوها من دون تفريغ حمولتها، ومن دون أي خدش، أو تسريب، رغم ضخامتها وثقلها الذي يزيد على ٤٠٠ ألف طن.. هو تحرير جديد للقناة بعد أن حررها الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر عام ١٩٥٦ من الإدارة الانجليزية الفرنسية وأعادها لأهلها وناسها، وبعد أن حررها الجيش المصري عام ١٩٧٣، ونجح في عبورها وتحطيم خط بارليف على ضفتها الشرقية خلال ست ساعات، واليوم يحررها الأحفاد في ستة أيام. 

كانت معركة جديدة لتأكيد سيادة مصر على قناة السويس، معركة تضاف إلى خريطة المعارك التي خاضتها الدولة المصرية لاستقلال قرارها، وفرض سيادتها على المجرى الملاحي الأهم في العالم والذي تعبر منه ١٢ في المئة من التجارة العالمية، وعبرته العام الماضي فقط ١٩ ألف سفينة. 

 وخلال معركة الأيام الستة الأخيرة، تم قصف الإدارة والإرادة المصرية بأشكال من قاذفات الشماتة والتربص، والتزمت مصر الصمت في مواجهة ما تعرضت له من هجوم وتشكيك في قدرتها على إدارة الأزمة، وحاولت دول كبرى التدخل باسم المساعدة، وفِي المقابل صمتت مصر، وفضلت أن يأتي الرد عملياً بالإنجاز وتحقيق ما يبهر العالم ويفرض على الطامعين الصمت الرهيب. 

  فعلاً، ربّ ضارة نافعة، كان يمكن لمصر استثمار هذه الأزمة منذ بدايتها لمصلحتها، من خلال المؤتمرات الصحفية العالمية وتسويق الجهد الذي تبذله هيئة قناة السويس في هذا الصدد، خصوصاً أنها لا تقع عليها أي مسؤولية في جنوح السفينة الذي يتحمله القبطان، وساعدت عليه الظروف المناخية، ولكن مصر فضلت الصمت الذي جاء أبلغ كثيراً من الهرطقات الكلامية المجوفة والتي ظهر أصحابها صغاراً أمام عظمة الإنجاز.  

  مصر استطاعت، لأنها أرادت، وهي الإرادة التي لا تزال مفقودة عند القليل من أبنائها الذين استوطنهم الفساد، وتمكن منهم الاستهتار، وأصبحت اللامبالاة نهج حياتهم، وليس من حل معهم سوى الحساب والعقاب لأنهم يلوّثون أي إنجاز، ومن هؤلاء، المسؤولون عن حادث تصادم قطاري سوهاج الذي أودى بحياة أبرياء لا ذنب لهم سوى أن قدرهم وضعهم في طريق المفسدين؛ وأيضاً ضحايا العمارة المنكوبة في جسر السويس بالقاهرة والذين ساقهم القدر للإقامة في عمارة يملكها جشِع، وسمح بها فاسد، وتغافل عّما بها من مخالفات مرتش. 

 مصر اليوم فيها أيادٍ كثيرة تبني، ويد الفساد لا تزال تهدم، فخلال أيام معدودة شهدت حوادث القطار والعمارة والسفينة ليتأكد للعالم أن فيها أبطالاً يستطيعون أن يبهروا الدنيا، وفيها مفسدين يُدمون القلوب، وما بين هؤلاء، وأولئك، تكون إرادة النجاح والإنجاز، والسموّ بالوطن إلى القمة في مواجهة إرادة الاستهتار والاستهانة والإفساد والسقوط بالوطن إلى القاع، وعندما تتوافر لدى الدولة إرادة مكافحة الفساد فإنها ستخوض معركة طويلة المدى، ولكنها في النهاية ستنتصر فيها، وهذا ما يؤكده الماضي والحاضر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"