عادي

من يوميات زمن «كورونا»(2)

01:36 صباحا
قراءة 4 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

** ماذا تعلمنا من تجربة جائحة كورونا؟

** في جعبة كل منا دروس خاصة تعلمها، وحكايات يمكن سردها، حتى ولو تشابهت مع تجارب آخرين.

** وعلى سبيل المثال، لقد تذكرنا أن في تراثنا الحضاري ما يدعونا للحرص على نظافة البدن، وطهارة الأمكنة، وتربية الضمير الإنساني، وتهذيب قسوة القلوب، وتعميق التفكر في خلق السموات والأرض، بالعلم والبحث والمعرفة، لا بالظن، أو بانتظار من «يحك» لنا ظهرنا، ويجترح الترياق اللازم لأوجاعنا، ونحن نتلفع بدثارنا مطمئنين مستريحين، حتى تغفو أعيننا في نعاس.

** تتكشف لنا يوماً بعد يوم، من أيام زمن «كورونا» الممتد حتى الآن، جوانب «مشرقة»، ربما، وعلى رأسها الإدراك المشترك بأن العالم يقف معاً، في مواجهة هذا البلاء، وأن التعاون المشترك هو فطرة إنسانية، بها تستقيم حياة الناس على هذا الكوكب.

** كشفت هذه الجائحة عن الأفضل والأسوأ في الطبيعة البشرية وذلك في لحظات الحاجة للمساواة في توفير الحماية من هذا الوباء، وللتكاتف، ومد العون للفئات والمجتمعات الضعيفة والفقيرة والمنسية.

** في عالمنا العربي، والعالم الثالث اللانامي، كان علينا أن ننتظر من ينقذنا من هذا الوباء، أو حتى يخفف من تغوّله، ويفتح أبواب الرجاء والأمل، وكأننا أدركنا متأخرين حقيقة أن الدول والمجتمعات التي لا تكون محصنة بالعلم والبحث والتطوير، والحكم الرشيد، ستكون عرضة للضياع والفشل.

** لم يكن فيروس «كورونا» هو الأول الذي كوفح بالتحصين الجماعي (مناعة القطيع)، فقد سبقته أمراض معدية قاتلة عديدة في التاريخ، وتمكن العلم من السيطرة عليها من خلال صناعة اللقاحات اللازمة، ومن بين هذه الأمراض، الجدري، الذي قتل في القرن الماضي نحو ثلاثمئة مليون من البشر، وقبل ذلك القرن، فقد العالم عشرات الملايين من الضحايا، ومن نجا أصيب بالعمى، لكن في نهاية المطاف، تمكنت البشرية، من تطوير لقاح للوقاية منه، وكانت تلك الحال مع شلل الأطفال والحصبة والملاريا.. الخ.

** وها هي قطرات اللقاح قد جاءت، ومعها مخاوف وقلق، وإشاعات وفوضى في المعلومات، وتضارب في الاجتهادات.. ولعل ذلك هو قلق طبيعي، وخوف فطري من المجهول يصيب البشر، وكذلك الدول، غنيها وفقيرها، وبخاصة حينما تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي أخباراً مضللة، أو غير علمية، حول الفيروس ولقاحاته.

** إنها مرحلة مفصلية في تطور البشرية، وتستدعي حِسَّاً عالياً بالمسؤولية الإنسانية، وإيماناً عملياً بمستقبل مشترك لسكان هذا الكوكب.

** وقد طرحت مسألة اللقاحات تحديات مستجدة أمام المجتمعات، وعلى رأسها توفير الكمّ الكافي من هذه اللقاحات، بما يحقق مناعة مجتمعية كافية لمحاصرة هذا الوباء، إضافة إلى إشكاليات نقلها وتخزينها وحصصها العادلة لمن يحتاج إليها في شتى بقاع المعمورة.

** وما يقلق الضمير الإنساني، في هذه الأزمنة، ما يبدو للعيان من استثمار البعض لظروف الخوف والقلق والذعر، لإشعال صراعات جيوسياسية، ومنافسات أنانية شرسة في الاقتصاد، خاصة وقد تبين أن البشرية أمام حرب غير قصيرة المدى، مع هذه الجائحة وتحولاتها الفتاكة.

** ولعل فيروس «كورونا»، وحده، كان كافياً لأن تذوب (الأنا) في (الآخر) ذوباناً اختيارياً، فيصبح العالم في مخيلتنا أكثر هدوءاً وتعاضداً وتسامحاً، إلاَّ أنه من الواضح أن توافه الحياة سرعان من تسحبنا إلى واقع آخر، وما فيه من مشاعر سلبية تُكبِّد ذواتنا الجوَّانية كلفاً نفسية كبيرة.

** كثير منا تمرد على العزلة، وأحياناً بحذر، خاصة حينما يحرقنا الحنين إلى لحظات اللقاء. أفر إلى شرفة مقهى، في فندق على خاصرة البحر، أسأل صديقاً مشاركتي «فسحة» من هواء الحرية، نتأمل معاً، كيف يلتقي الماء بالسماء، نخطو خطوات مرحة باتجاه البحر الأزرق.

صبية وأطفال يرسمون على رمل الشاطئ أشكالاً (كاريكاتيرية) ونشهق لعل نسمات البحر تعبر إلى الروح، وتملأ خبايا الصدر، نصغي إلى صوت عناق الأمواج، وضحكات صبايا يمرحن على الشاطئ.

 نستنشق رائحة البحر، وننتظر سرب نوارس يطير حيناً ويهبط على الماء أحياناً، يرتحل إلى الأفق البعيد.

** هل لدينا وقت للحديث في السياسة وهمومها وعجرها وبجرها؟ قال صديقي، وهو يشرب قهوته. 

** تذكرت تلك اللحظات التي كانت تجمعنا مع رفاق الكلم الطيب، والرؤى النافذة، والحس المسؤول في مجلس أو في ركن قصيّ في مقهى. وتذكرت كيف كان نادل المقهى يحرص في كل مرة على تقديم فنجان القهوة بحليب اللوز الساخن جداً، وعلى سطح رغوة القهوة يرسم وجهاً مبتسماً يغمز بعينه.

** قال صديقي حكمة صينية، ونحن نغادر المكان: «هناك من الناس، من تعيش معه عشرات السنين، ولا تذكر منه لحظة، وهناك من تعيش معه لحظة، يتذكرها طول العمر، لأن الذي يحتل القلوب هي المواقف وليس الزمن».

** كانت «فسحة الحرية» الهاربة من العزلة، لحظة مسرَّة منعشة وكافية أن تشعل الكثير من ذكريات أشخاص وأمكنة، كانت، وما زالت، قناديلها تضيء في الثقافة والفن والسياسة والظرف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"