عادي
الطعام مأكولاً ومقروءاً

الشرق الأقصى ينضج على نار الأرز الهادئة

23:25 مساء
قراءة 4 دقائق
100
8

محمد إسماعيل زاهر

من بين الأطعمة يوصف الأرز بأنه لوحة بيضاء يستطيع الطاهي تشكيلها كما يشاء، وتزيينها بإضافة مختلف التوابل والصلصات والخلطات للخروج بأشهى أنواع المأكولات، ولكن تلك اللوحة لا تجذبنا ألوانها والمواد المستخدمة فيها لأننا جوعى فقط، فالقارئ في سيرة الأرز سيندهش إزاء التنوع الذي تميز به في مختلف الثقافات، وسيتوقف عند الكلمات والتعبيرات التي صاغها البشر للتعبير عن تقديرهم له، والمهرجانات التي تقام في مختلف بلدان العالم للاحتفاء بمواسم حصاده، وربما لن يملك إلا أن يلقي على أحد أصدقائه، التحية التايلاندية التقليدية «هل تناولت الأرز اليوم؟».

التحية السابقة، قد يُفهم منها رغبتنا في معرفة هل تناول الآخرون طعامهم، ولكنها تؤشر أيضا إلى دور الأرز في التآلف بين البشر، ففي القرن السابع عشر، أسست الصين مراكز للتجارة على الساحل الغربي لماليزيا، اتسمت بالطابع الكوزموبوليتاني، والتقت هناك مختلف الأعراق والأديان، و شهدت تلك المراكز تمازج الثقافات من خلال الزيجات المختلطة، وتعدد أنواع الطعام، وتذهب رينيه مارتن في كتابها «الأرز..التاريخ الكوني»، إلى أن الأزر كان الطعام الذي وحد بين المسلمين والصينيين والهندوس آنذاك، فلحم الخنزير محرم على المسلم، ولكنه مفضل لدى الصينيين، والهندوسي لا يأكل لحم البقر، واتفق الكل على حب «برياني الأيكان» وتناولوه في الحفلات واللقاءات المشتركة، وهو طبق من الأرز والسمك المتبل، يلحظ فيه أثر سكان شمال أفغانستان والهند.

يوفر الأرز الغذاء للعالم أكثر من أي نبات آخر، فمن اليابان في أقصى الشرق إلى أمريكا اللاتينية غرباً، ومن الشمال البارد إلى جنوب إفريقيا، يتناول ثلثا البشر الأرز كل يوم، وهو المصدر الرئيسي للسعرات الحرارية، ويدخل في صناعات ومأكولات لا يعرفها الكثيرون، في الخبز والكعك والنقانق والصلصات و الخل وحبوب الإفطار وبعض مستحضرات التجميل، وهناك حليب يصنع من الأرز.. و أما قشوره فيتم إحراقها لتستخدم كوقود.

خريطة تاريخية

يرسم ستيفن هاريس في كتاب «الأعشاب» خريطة تاريخية لانتشار الأرز، فذلك النبات المعروف في شرق آسيا منذ تسعة آلاف سنة، انتقل إلى الشواطئ الجنوبية لبحر قزوين مع المسلمين، وبحلول القرن الخامس عشر دخل إلى إسبانيا، ثم عبر إلى إيطاليا وفرنسا، نهاية بالعالم الجديد، وفي تلك الرحلة، لم تُبتكر أنواع لا نهاية لها من الأطعمة وحسب، ولكن كان هناك أيضا إسهام كل بلد في تطوير نوع من الأرز الخاص، بما أدى إلى التنافس للحصول على الأنواع الجيدة بأساليب شملت السرقة والتهريب، وتخلل كل ذلك المئات من الحكايات. كان سعر العبيد العارفين بزراعة الأرز أعلى من الآخرين، وبعد تحريرهم وهجرة الآلاف من الصينيين إلى أمريكا في نهايات القرن التاسع عشر، كان العامل الصيني يتقاضى أجرته أرزاً.

المثير للانتباه في حكايات الأرز، ذلك التهريب الذي مارسه البعض، ففي عام 1787 حاول توماس جيفرسون شحن كميات من الأرز الإيطالي إلى الولايات المتحدة، ولكن القانون كان يمنع تصدير الأرز بقشوره، فلم يجد أمامه أي مجال إلا أن يملأ جيوبه به.

أقدم حبة من هذه النبات تعود إلى سفوح جبال الهيمالايا منذ خمسة عشر ألف سنة، ووفق رينيه مارتن فإن النساء أول من زرع الأرز، وتروي إحدى الأساطير الصينيية عن شعب استوطن الجبال بعد الفيضانات التي دمرت أرضه، فجاء كلب وقد علق في ذنبه عنقود أرز، وفيما الكلب يركض سقطت البذور على الأرض المغمورة بالماء فنما الأرز، من هذه الأسطورة وغيرها اكتسب الأرز قدسية ما في الحضارات القديمة، ففي طقوس الدفن الكورية توضع ثلاث ملاعق من الأرز في فم الميت لتسهيل انتقاله إلى العالم الآخر.

تفكير مختلف

في عام 2003 ذهب المفكر الأمريكي ريتشارد نيسبت إلى أن الآسيويين يفكرون على نحو مختلف عن الغربيين، الأمر الذي أثار ضجة لا مجال للتطرق إليها هنا، وكانت إحدى حجج نيسبت أن الصينيين أمهر في الحساب دون الهندسة التي تفوق فيها الإغريق، وهو ما تؤكده رينيه مارتن من منظور الأرز، فلمئات السنين كانت الأرض المزروعة في الصين بهذا النبات تعالج يدويا، الأمر الذي تطلب اهتماما خاصا بعلم الحساب لقياس الأقدام المربعة ومعرفة مستويات المياه وبقية العمليات المتعلقة بالري، وكان ذلك العمل يستمر لفترات طويلة وبصورة يومية، ما أدى إلى ازدهار ملكات العدّ والحفظ لدى الأطفال.

لا يمكن أن نكون في حضرة الأرز من دون التطرق إلى اليابان، تلك الحضارة التي تدين بالكثير من مقوماتها إلى الأرز، فالاسم الأصلي لليابان «ميزو هونو كوني» وتعني بلاد نبتة الماء أو الأرز، أما كلمة «جوهان» فتعني الأرز المطبوخ، والوجبة في الوقت نفسه، و«جوهان» ملحقة بالوجبات الثلاث: الإفطار «أساجوهان»، الغداء «هيروج هان» والعشاء «بانجو هان»، بما يعني مركزية للأرز في الطعام على مدار اليوم.

يدخل الأرز في مختلف مفاصل الحياة اليابانية، فهناك احتفالات دورية بنبتة الماء، وكان من ضمن مهام الإمبراطور شبه المقدس في الماضي وفق التعاليم الشنتوية العناية بزراعته، ووفق رينيه مارتن فإن الأرز استخدم في اليابان في مستحضرات العناية بالوجه، وتجليد الكتب وصبغ الأنسجة و خاصة الحرير في زي الكيمونو الشهير، وفي المواد الخام للوحات التشكيلية.

العمل الجماعي

التأثير الأبرز للأرز انعكس في ثقافة العمل الجماعي، ففي كتاب «الأرز..التاريخ الكوني»، صور عديدة لعائلات تجاورت في الأرض واشتركت على مدار قرون في زراعة الشتلات وشق القنوات وبناء السدود، ووزعت العمل بالتساوي على أفرادها، فالأرز يحتاج إلى عمالة كثيفة، ما أدى إلى ترسيخ روح الانضباط التي ميزت اليابان، ولكن ما لم تخبرنا به مارتن أن الكثير من المجتمعات برعت في زراعة الأرز، فلماذا تأثرت اليابان بمفردها بتلك الروح؟، هل هناك عوامل أخرى انفردت بها اليابان؟، أم أن طبيعة الأرض اليابانية القاسية جعلت التضامن بين البشر مسألة حياة أو موت، وهو ما يحتاج إلى موضوع آخر عن بلاد الشمس المشرقة.

لولا القمح لكان الأرز طعام البشر الرئيسي، ولأصبحنا كلنا نردد المثل الفيتنامي الذي يقول:«دع كل طعام المائدة لكن حاول الحصول على طبق الأرز».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"