مطاردة من نوع آخر

23:05 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

تجرُّ اللغة الشاعر أو الأديب إلى مطاردةٍ من نوع آخر، خصوصاً إذا كان المبدع يبحث عن رفيقٍ من نبعٍ عذب، ودائماً تشكّل اللغة هندستها الخاصة، لكن عندما يفكّر صاحب القلم بطريقة مختلفة، فحتماً ستكون اللغة حديقةً فيها من جميع الزهور والأشجار، ومن الحتمي أن يجدّد الإبداع ماهيّة اللغة، وهذا مرتبط بعبقرية الإبداع نفسه، وشاعرٌ مثل أبي تمام غيّر مفاهيم الشعرية في زمانه بإبداعه الخارج عن المألوف، وليس أبا تمام وحده، ولكن هناك الكثير من المبدعين الذين غرسوا في أرض اللغة ما كان مستحيلاً بالتخيل العقلي، وعندنا شاعرٌ مثل محمود درويش ظلَّ يتنقّل من حالةٍ إلى أخرى حتى أصبحت تحوّلاته الشعرية من العلامات الدالة على قدرته في الحفر في صخور اللغة ووديانها، كون الجملة عند درويش لها إيقاعها المختلف، وكما في الشعر في القصة والرواية وسائر صنوف الأدب، فنحن في هذا العصر عشنا تجربةً مع كتاباتٍ محلّقة، حيث بدت بعض الروايات بنسقها الخارج عن طبيعة السرد المألوف وكأنها مقطوعاتٍ نثريّة تقترب من جماليات الشعر ودرجات تكثيفه، وليس هذا فحسب، فقد برع العديد من كتاب المقالات الأدبية والنقاد في أن يبرهنوا على أن الاشتغال على اللغة من خلال المحتوى المكتوب يجدد في طبيعتها ويحصّنها من كل شيء.

إنني على يقين بأن الإبداع إذا كان صادقاً ويحمل رؤيةً فهو معيارٌ حقيقيٌّ للإبداع اللغوي، فكثيراً ما نشعر بالملل عندما يتم تناول اللغة بطريقةٍ رتيبة، وأداءٍ تقليديٍّ فج، بينما نشعر بالجمال وهو يتدفق مع كل كتابةٍ تمتلك القدرة على الدهشة والإبهار، ولا يمكن أن تتجدد مفردات اللغة دون أن يكون هناك مشروع يتخطى العادي والمألوف، هكذا تتضح الصورة ونحن نتعامل مع اللغة أيّاً كان هذا الإبداع وأهدافه، ومن يستطيع أن يعزف نشيداً حلواً خالياً من مكتسبات البلاغة التقليدية فهو مجدّدٌ في بنية هذه اللغة، ومهيمنٌ على مستقبلها، وفي عالمنا العربي نماذجُ كثيرةٌ زاخرةٌ بهذا الولع بما يمثل نقطة انطلاقٍ نحو إعادة هيكلة اللغة والعمل على بناء مفرداتها بشكلٍ مختلفٍ تماماً، ولكي يصل أي مبدع إلى هذه المرحلة من التجديد والابتكار فلا بد أن يكون لديه خيال قويّ، ونظرةً ناقدةً ومدركةً لكل قضايا العصر، وهذا هو المطلوب، لأن اللغة التي تظلّ كما هي دون أن يمسّها حريق الإبداع تظلّ راكدةً وخارج تحولات التاريخ، ومن المنصف أن نشهد لهؤلاء الذين احترموا بواعث الموروث وأعادوا تشغيله وأضافوا بجهدهم الفكرية دون المساس بالثوابت أو الخروج عليها بما لا يليق، فالإبداع الحقيقي لا يلغي السابق، لكنه دائماً يحاول أن يضع صورة أفضل، وهو ما يكمل مسيرة الإبداع في تجديد اللغة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"