عادي
قراءات

«اللامرئي» يتلصّص علينا

23:54 مساء
قراءة 3 دقائق
1

الشارقة: علاء الدين محمود

يخوض الفيلسوف الفرنسي المعاصر كليمون روسي (1939 – 2018) في كتابه «اللامرئي»، لعبة في مضمار المتخيل وعلاقته بالواقع، لكنها لن تكون سهولة ميسورة، فهي تتطلب أعلى درجات الإحاطة بموضوع معقد ومركّب، حيث يستجمع في الكتاب كل إمكاناته اللغوية والفلسفية ليحول ذلك المخفي إلى شيء حاضر وواقعي، فاللامرئي بالنسبة إلى روسي ليس مجرد وهم كما يعتقد الجميع، وليس شيئاً ما ورائياً يقف بعيداً ومحجوباً في الظلال، بل هو موجود وفاعل في الحياة له تأثيراته في البشر بصورة وأشكال وتمثلات مختلفة.

يقدم روسي في الكتاب العديد من الأمثلة من أجل توضيح فكرته عن اللامرئي من أجل إدراك ما لا يدرك، ورؤية ما لا يُرى، والكتاب يأخذ القراء إلى تفاصيل رحلة استكشافية وسياحية ماتعة، لا تخلو من الدهشة في كل منعطف عندما نجد «اللامرئي»، ماثلاً أمامنا ليكشف عن نفسه، بل ربما يتلصص علينا.

يغوص روسي في عمق النفس البشرية ويكشف عن الإمكانات المذهلة للبشر في تصور الأشياء غير الموجودة فعلياً، وكيف أنهم يتعاملون معها على أساس أنها واقعية، ويقول في هذا الخصوص: «أنْ نرى أو نعتقد رؤية ما لا يمكن رؤيته، وأن نتصور ما لا يمكن تصوره، وأن نتخيل ما يتعذر في الحقيقة تخيله، ذلك لأن الإنسان غالباً ما يكون لديه ملكة اعتقاد إدراك أشياء في غاية الالتباس، والتي يمكننا أن نقول إنها موجودة وغير موجودة في الآن ذاته»؛ ويعني أنها غير موجودة بصورة مادية، لكنها حاضرة عبر تأثيراتها، فالمولع بالفن، على سبيل المثال، يقف متأملاً في اللوحة ليبحث عما وراءها من معنى، وذلك يشمل جميع أنواع الفنون والتجارب الجمالية والوجدانية، ويستشهد روسي، في مجال الأدب، برؤية الشاعرين الفرنسي ستيفن مالارميه، والإيطالي ريمون روسيل، حول الخلق الفني باعتبارها فكرة قائمة على الوهم، وكذلك الأعمال الفنية السوريالية التي تفارق الواقع بصورة مطلقة من أجل تشييد لوحات وابتكارات فنية قائمة على عالم افتراضي، فالسوريالية محاولة لتجسيد ما لا يدرك، ويحيلنا إلى عوالم الأديب وليم شكسبير التي تحضر فيها الأشباح التي تتجول حرة طليقة تبحث عن الانتقام.

ويستعين روسي بما يحدث للدماغ في حالة الأمراض النفسية، مثل البارانويا، ويحيلنا إلى الطبيب النفسي الفرنسي جايتان دي كليرامبو، في كتاباته عن «هوس العشق»، وهو نوع من الأمراض يصيب الإنسان بأوهام غريبة بحيث لا يتمكن، في بعض المراحل، من تمييز الفرق بين ما هو واقعي، وما هو متخيل؛ ويتلاشى عنده الخيط الفاصل بين الحقيقة والوهم، حيث يظن المريض أنه مطارد من قبل جهة ما تتجسس عليه، وفي أحيان أخرى يحدث العكس، حيث يعتقد أن هناك شخصاً موجوداً في حياته بصورة غير مرئية يقيم معه علاقة ما، مثل الحب، وروسي يضرب المثال بالبارانويا، ليؤكد على حضور ذلك اللامرئي في حياة الإنسان بأشكال مختلفة.

ويتناول روسي تصورات البشر في مجال الأفكار والسياسة، ويشير إلى مفهوم شديد التأثير في الكثير من البشر في مختلف أنحاء العالم وهو «اليوتوبيا»، أو العالم المثالي، وهو مجموعة من الأفكار المتخيلة، لكن لها حضورها القوي والواقعي بحيث يتمثلها الناس وتتحكم فيهم، ويطل روسي كذلك على عالم اللغة والبحث عما وراء الكلام من معان، فالذي يحضر في اللغة هو الحديث المباشر، والذي يغيب هو المعاني التي قد تحمل تفسيرات ووجوهاً خافية عدة.

ويتوقف الكتاب عند الرسام الإسباني فرانسيسكو جويا (1746 1828)، الذي يعتبر عند الكثير من النقاد «أبو الفن الحديث»، فقد اشتهر بأعماله الجامحة التي لا تعرف حدوداً للخيال، وقد وجد فيه روسي نموذج الفنان الذي يجمع بين المأساوي والكوميدي معاً، وكذلك الحقيقة والخيال، واهتم بفكرة الرعب والوهم وحاول أن يقيم علاقة داخل أعماله بين ما هو خفي ومتخيل، وما هو حقيقي وواقعي، لذلك نجد في رسوماته، المخلوقات العجيبة التي يتخيلها البشر باعتبارها غير موجودة، لكنها تحضر في أعماله حيث تجلس مع الناس وتتسامر معها.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"