تهديدات ما بعد الانسحاب

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. محمد السعيد إدريس

من كان في مقدوره الاستماع إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن ومشاهدته وهو يتحدث عن المأساة الأفغانية بعد ظهر الاثنين الفائت، كان في مقدوره أن يصل إلى قناعة مفادها أن الفوضى ليست في كابول وحدها التي نجحت حركة «طالبان» في السيطرة عليها والدخول إلى القصر الرئاسي ومكتب الرئيس دون إطلاق رصاصة واحدة، بل الفوضى في واشنطن أيضاً. تعليقات الرئيس وكبار المسؤولين سواء كانوا من الديمقراطيين أو الجمهوريين وفداحة تناقضاتها تؤكد جدية وجود أزمة في دوائر صنع القرار الأمريكي.

هذه الأزمة مرشحة للاستفحال بين الرئيس وفريقه في الإدارة سواء في الحكومة أو المؤسسات الأمنية وبين المعارضين الجمهوريين في الكونجرس، وليس من المستبعد أن تؤثر سلبياً في شعبية الرئيس وفي مرشحي الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية التي ستجري العام القادم.

محاولات الرئيس بايدن الذي قطع عطلته في كامب ديفيد وعاد محاولاً لملمة التداعيات والانتقادات، جاءت بنتائج معاكسة خصوصاً إصراره وللمرة الثانية في مدة قصيرة، على نزع أي قيمة أخلاقية للغزو الأمريكي لأفغانستان منذ عشرين عاماً وإحكام السيطرة عليها طوال هذه المدة. ففي مؤتمره الصحفي يوم الخميس (8-7-2021) دافع بايدن عن قراره بإكمال سحب القوات الأمريكية قبل نهاية شهر أغسطس/ آب الجاري، وعندما واجه انتقادات بأن الانسحاب يتم في ظل ظروف أفغانية داخلية غير مواتية مع توقعات بأن تسود الفوضى البلاد دون وجود مؤسسات حكم قوية قادرة على فرض الاستقرار والأمن كان رده «لم نذهب إلى أفغانستان لبناء أمة».

الاثنين الماضي أعاد بايدن تكرار العبارة نفسها وقال «لم يكن من المفترض أبداً أن تكون مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان بناء أمة» وزاد توضيحاً وإصراراً على موقفه أن «المصلحة القومية الأمريكية في أفغانستان كانت تتمحور بشكل أساسي دوماً حول منع استهداف الولايات المتحدة بهجمات إرهابية انطلاقاً من البلد الغارق في الحرب».

لم يأبه الرئيس الأمريكي بمشاهد الآلاف من الصبيان والفتيان والرجال الأفغان وهم يحاولون تسلق إحدى الطائرات الأمريكية في مطار كابول أملاً في الهروب من مصير غامض. وهكذا تترك أمريكا كل شيء أو «اللا شيء» وتنسحب. لا مؤسسات حكم، لا جيش، لا قوات أمن، الجميع هربوا مع الانسحاب الأمريكي.

تهديدات الرئيس بايدن لحركة «طالبان» في خطابه بأنه «سيرد برد مدمر إذا هاجمت طالبان المصالح الأمريكية» كانت «مثيرة للدهشة» عند الكثير من المراقبين الأمريكيين أكثر من الأجانب، الذين اعتبروها تهديدات عاجزة، لأن كل ما كان يهم الرئيس الأمريكي في الأيام بل وفي الساعات الأخيرة قبل دخول «طالبان» إلى كابول والقصر الجمهوري هو«الخروج الآمن للقوات وللرعايا الأمريكيين» من أفغانستان، وأن هذا تم بشكل مؤكد باتفاق مع حركة «طالبان»، وأن الأمريكيين في السفارة الأمريكية قاموا بإتلاف كميات هائلة من الوثائق قبل مغادرتهم العاصمة الأفغانية.

تهديدات بايدن ل«طالبان» مؤشر مهم لمستقبل العلاقات الأمريكية – الأفغانية، التي من المرجح أن تبقى أسيرة «مربع الغموض» الذي يسيطرعلى ما يمكن تسميته الآن ب«المشروع السياسي لحكم حركة طالبان»، ما يعني أن واشنطن لن يكون لها سلطان على حكم «طالبان»، وأن من سيكون في مقدورهم ملء فراغ الانسحاب الأمريكي الاضطراري، وليس الاختياري، حسب توضيحات بايدن في تبريره للانسحاب، هم من ستكون لهم الكلمة مع حركة «طالبان»، ونستطيع بسهولة تحديد من هم هؤلاء الأطراف الدولية الأقرب إلى «طالبان» من مقارنة أداء السفارات الدولية وانشغالاتها يوم الاثنين الماضي.

 فبينما كانت السفارة الأمريكية والسفارات الغربية تلملم أوراقها وتقوم بإجلاء الرعايا خارج أفغانستان، كانت سفارات روسيا والصين وباكستان والهند وإيران في أجواء أخرى مختلفة وكأنها جزء من الحدث الذي أخذ في التبلور، داخل أفغانستان، وهذه كارثة أخرى لم يستعد لها الرئيس الأمريكي، الذي يعد بلاده لمواجهة استراتيجية مع الصين وروسيا في جنوب شرق آسيا، وإذا به يقدم أفغانستان ورقة مهمة لهذه الدول في صراعها مع الولايات المتحدة.

ليست هذه هي الكارثة الوحيدة، هناك كوارث أخرى سيكون الرئيس الأمريكي مضطراً للتعامل قسرياً معها، وهي تداعي ثقة حلفاء واشنطن في زعامتها. وحتماً سيعاود الأوروبيون مراجعة تحالفهم الأطلسي مع الولايات المتحدة ويعودون لإعطاء أولوية لتأسيس«الهوية الأمنية الأوروبية» المستقلة بعيداً عن حلف شمال الأطلسي وتأسيس مشروع سياسي أوروبي مستقل، والخطر نفسه يمتد إلى حلفاء أمريكا الكبار في آسيا: اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية وكلها تداعيات تؤكد أن الولايات المتحدة باتت مطالبة بدفع أثمان مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"