انتخابات فوق حقل ألغام

عبدالله السناوي

تكاد الانتخابات الليبية، التي اقتربت مواعيدها، أن تكون استعراضاً سياسياً فوق حقل ألغام، كل حركة محكومة بموازين وحسابات قد تختل في أية لحظة وينهار الاستعراض كله بمسرحه وأبطاله ورهاناته.

أخطر التحديات التي تطرح نفسها بإلحاح إذا ما كان ممكناً أن تمر الانتخابات بسلام دون تفلتات أمنية كبيرة تربك مشاهدها وتقوض رهاناتها.. وإلى أي حد يتوافر الأمن الضروري لإجراء انتخابات شفافة ونزيهة في ظل ترسانات سلاح بأيدي ميليشيات ومرتزقة، فضلاً عن القوات الأجنبية المتمركزة؟

كل سيناريو ممكن ومحتمل في مشهد شبه عشوائي بلا مصالحة وطنية تسبقه، أو مشروع سياسي يضمن الانتقال السلمي إلى عصر جديد بدستور يسبق الاستحقاق الانتخابي.

القضية ليست في قانون الانتخابات، يعدل أو لا يعدل، بقدر ما هي في غياب الأرضية السياسية الملائمة لانتخابات حرة ونزيهة تؤسس لمؤسسات دولة قابلة للحياة والنهوض بالبلد من تحت ركام حرب أهلية استمرت عشر سنوات.

تعديل القانون فكرة فات وقتها، لكنها تنطوي على حمولة ألغام مرشحة للانفجار تالياً، فهناك قوى دولية تتبناها كإيطاليا، وميليشيات مسلحة تلح عليها ك«الإخوان المسلمين» ورئيس حكومة الوحدة الوطنية نفسه «عبدالحميد الدبيبة» المرشح المحتمل للمقعد الرئاسي يدعو إليها على الرغم من أنه تعهد كتابياً عند استلام منصبه الحالي بعدم التقدم لهذا المقعد.

إذا ما افترضنا بضغط ما أن تعديلاً أجري على القانون لمنع مرشحين بعينهم، وتمكين آخرين، فإن الأطراف المتضررة سوف تطعن على ذلك التعديل وتناهضه بما تملك من وسائل ضغط وقوة.

في الفضاء السياسي الانتخابي تتردد عبارات «رأب الصدع» و«المصالحة الوطنية» و«إنهاء معاناة الليبيين» في بيانات المرشحين المحتملين للمقعد الرئاسي دون أن تتوافر أية مقومات واضحة وملزمة، كأن حل الأزمة أن تلقى مهمة الإنقاذ على رجل واحد، يمكن للمجتمع الدولي أن يتحدث معه.

في مؤتمر باريس، الذي انعقد (12 نوفمبر) تمهيداً للانتخابات أبدت القوى الدولية حزماً واضحاً في ضرورة الالتزام بالموعد المقرر (24 ديسمبر المقبل)، دون أن تبدي حزماً مماثلاً بضرورة سحب القوات الأجنبية والمرتزقة قبل إجراء الانتخابات ضماناً لنزاهتها.

وردت في مقرراته إشارة إلى أولوية وضع دستور جديد على جدول أعمال البرلمان المنتخب. كانت تلك مراهنة مبتسرة لا تتوافر فيها أية قواعد تضمن تقبل النتائج الانتخابية.

في المشاهد الانتخابية الجارية تتبدى مقدماً مزالق وألغام. يستلفت الانتباه -أولاً- حالة تزاحم على الترشح للرئاسة والبرلمان تتعدى التوقعات المسبقة.

من طبائع الأمور أن يحدث مثل هذا التزاحم في مراحل الانتقال، عندما تنفسح الفرص أمام من يرون في أنفسهم بحق، أو بغير حق، أهليتهم للمنصب الرئاسي، بلا التزام كبير بالاعتبارات القبلية والجهوية.

من أقوى المرشحين قائد الجيش خليفة حفتر، ورئيس البرلمان عقيلة صالح، ونجل العقيد الليبي الراحل سيف الإسلام القذافي، على الرغم من أنه يفترض انتسابهم إلى خطوط سياسية متقاربة.

على الجانب الآخر ترشح أحمد معتيق، وفتحي باشاغا، اللذان ينتسبان إلى المدينة نفسها «مصراتة» ولعبا أدواراً حكومية باسم «القوى المسلحة فيها».

تراجع الالتزام القبلي والجهوي، تطور إيجابي بذاته، لكنه يربك أي توقعات مسبقة لنتائج الانتخابات. الظاهرة نفسها تبدت بدرجة أكبر في الترشيحات لمقاعد البرلمان.

يستلفت الانتباه – ثانيا- قدر الاضطراب في بنية السلطة الانتقالية، التي يفترض إشرافها على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؛ حيث يتصادم البرلمان، الذي يتمركز في طبرق، والمجلس الأعلى للدولة، الذي تسيطر عليه جماعة «الإخوان المسلمين» بقيادة خالد المشري.

في أحوال الفوضى هدد المشري، باستخدام العنف لمنع صعود حفتر، إلى مقعد الرئاسة إذا ما كسب الانتخابات. بالتصريح مرة وتنظيم الاحتجاجات أمام بعض مقرات مفوضية الانتخابات مرة أخرى بدت احتمالات الصدام مرجحة تالياً، كأنها انفجارات مؤجلة.

كان إقدام المجلس الرئاسي دون مسوغ مقنع على وقف وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش عملاً مستغرباً في توقيته والحكومة رفضته واعتبرته ماساً بسلطتها وصلاحياتها. إنها فوضى غياب القواعد عندما تضرب البيئة العامة.

يستلفت الانتباه– ثالثاً - الحضور القوي لإرث معمر القذافي، في المشهد الانتخابي.

القضية لا يلخصها نجله سيف الإسلام، يخوض الانتخابات أو يستبعد منها بذرائع قانونية، بقدر ما تمثله تجربة والده بالتماهي أو الرفض، الحب أو الكره.

كانت مفاجأة تحتاج إلى فحص وتدقيق أن قطاعاً يعتد به من الليبيين داخلاً في تفاعلاتها الحسابات القبلية يؤيدون نجل القذافي ربما من باب الحنين للاستقرار الذي وفره ووزن البلد في عصره، بغض النظر عن سياساته وخياراته وما هو منسوب إليه من أخطاء فادحة.

الحنين بذاته تعبير عن فشل ذريع انتهت إليه التجربة الليبية بعد عشر سنوات على اغتيال القذافي، إثر التدخل العسكري من حلف «الناتو».

لكل مرشح محتمل ظهير إقليمي ودولي يتصور أنه أقرب إلى مصالحه.

هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها.

أحد السيناريوهات المرجحة أن يربح الانتخابات الرئاسية المرشح الذي يحظى بأكبر درجة من التوافق الإقليمي والدولي عليه.

هذه مسألة لن تتضح حقائقها قبل أن يمضي المسار الانتخابي خطوات إضافية فوق حقل الألغام.